عنده ولا رحمة فإن الرحمة لا تعقل إلا من فعل من يفعل الشيء لرحمة غيره ونفعه والإحسان إليه فإذا لم يفعل لغرض ولا غاية ولا حكمة لم يفعل الرحمة والإحسان.

فصل: النوع العشرون جوابه سبحانه لمن سأل عن التخصيص والتمييز الواقع في أفعاله بأنه لحكمة يعلمها هو سبحانه وإن كان السائل لا يعلمها كما أجاب الملائكة لما قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} فقالوا: {تَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} فأجابهم بقوله: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ولو كان فعله مجردا عن الحكم والغايات والمصالح لكان الملائكة أعلم به أن سألوا هذا السؤال ولم يصح جوابهم بتفرده بعلم مالا يعلمونه من الحكم والمصلحة التي في خلق هذه الخليفة ولهذا كان سؤالهم إنما وقع عن وجه الحكمة لم يكن اعتراضا على الرب تعالى ولو قدر أنه على وجه الاعتراض فهو دليل على علمهم أنه لا يفعل شيئا إلا لحكمة فلما رأوا أن خلق هذا الخليفة مناف للحكمة في الظاهر سألوه عن ذلك ومن هذا قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فأجابهم بأن حكمته وعلمه يأبى أن يضع رسالاته في غير محلها وعند غير أهلها ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن في هذا جوابا بل كان الجواب أن أفعاله لا تعلل وهو يرجح مثلا على مثل بغير مرجح والأمر عائد إلى مجرد القدرة كما يقوله المنكرون وكذلك قوله: {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} فلما سألوا عن التخصيص بمشيئة الله وأنكروا ذلك أجيبوا بأن الله أعلم بمن يصلح لمشيئته وهو أهل لها وهم الشاكرون الذين يعرفون قدر النعمة ويشكرون عليها المنعم فهؤلاء يصلحون بمشيئته ولو كان الأمر عائدا إلى محض المشيئة لم يحسن هذا الجواب ولهذا يذكر سبحانه صفة العلم حيث يذكر التخصيص والتفصيل بينهما على أنه إنما حصل بعلمه سبحانه بما في التخصيص المفصل مما يقتضي تخصيصه وتفصيله وهو الذي جعله أهلا لذلك كما قال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} فذكر علمه عقيب تخصيصه سليمان بتسخير الريح له وتخصيصه الأرض المذكورة بالبركة ومنه قوله: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فذكر صفة العلم التي اقتضت تخصيص هذا المكان وهذا الزمان بأمر اختصا به دون سائر الأمكنة والأزمنة ومن ذلك قوله سبحانه: {أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} فأخبر أنه وضع هذه الكلمة عند أهلها ومن هم أحق بها وأنه أعلم بمن يستحقها من غيرهم فهل هذا وصف من يخص بمحض المشيئة لا بسبب وغاية.

فصل: النوع الحادي والعشرون إخباره سبحانه عن تركه بعض مقدوره لما يستلزمه من المفسدة وأن المصلحة في تركه ولو كان الأمر راجعا إلى محض المشيئة لم يكن ذلك علة للحكم كقوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} فعلل سبحانه عدم إسماعهم السماع الذي ينتفعون بهو وهو سماع الفهم بأنهم لا خير فيهم يحسن معه أن يسمعهم وبأن فيهم مانعا آخر يمنع من الانتفاع بالمسموع لو سمعوه وهو الكبر

طور بواسطة نورين ميديا © 2015