بما فيه من الضرر فلا بد أن يقوم بقلبه أن منفعته له راجحة ولا بد من رجحان المنفعة عنده إما في الظن وإما في المظنون ولو جزم راكب البحر بأنه يغرق ويذهب ماله لم يركب أبدا بل لا بد من رجحان الانتفاع في ظنه وإن أخطأ في ذلك وكذلك الذنوب والمعاصي فلو جزم السارق بأنه يؤخذ ويقطع لم يقدم على السرقة بل يظن أنه يسلم ويظفر بالمال وكذلك القاتل والشارب والزاني فلو جزم طالب الذنب بأنه يحصل له الضرر الراجح لم يفعله بل إما أن لا يكون جازما بتحريمه أو لا يجزم بعقوبته بل يرجو العفو والمغفرة وأن يتوب ويأتي بحسنات تمحو أثره وقد يغفل عن هذا كله بقوة وإرادة الشهوة واستيلاء سلطانها على قلبه بحيث تغيبه عن مطالعة مضرة الذنب والغفلة من أضداد العلم كالغفلة والشهوة أصل الشر كله قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} وينبغي أن يعلم أن الهوى وحده لا يستقل بفساد السيئات إلا مع الجهل وإلا فصاحب الهوى لو جزم بأن ارتكاب هواه يضره ولا بد ضررا راجحا لانصرفت نفسه عن طاعته له بالطبع فإن الله سبحانه جعل في النفس حبا لما ينفعها وبغضا لما يضرها فلا تفعل مع حضور عقلها ما تجزم بأنه يضرها ضررا راجحا ولهذا يوصف تارك ذلك بالعقل والحجى واللب فالبلاء مركب من تزيين الشيطان وجهل النفس فإنه يزين لها السيئات ويريها أنها في صور المنافع واللذات والطيبات ويغفلها عن مطالعتها لمضرتها فتولد من بين هذا التزيين وهذا الإغفال والإنساء لها إرادة وشهوة ثم يمدها بأنواع التزيين فلا يزال يقوى حتى يصير عزما جازما يقترن به الفعل كما زين للأبوين الأكل من الشجرة وأغفلهما عن مطالعة مضرة المعصية فالتزيين هو سبب إيثار الخير والشر كما قال تعالى: {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وقال: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} وقال في تزيين الخير: {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} وقال في تزيين النوعين: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} وتزيين الخير والهدى بواسطة الملائكة والمؤمنين وتزيين الشر والضلال بواسطة الشياطين من الجن والإنس كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ} وحقيقة الأمر أن التزيين إنما يغتر به الجاهل لأنه يلبس له الباطل والضار المؤذي صورة الحق والنافع الملائم فأصل البلاء كله من الجهل وعدم العلم ولهذا قال الصحابة كل من عصى الله فهو جاهل وقال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} وقال: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} قال أبو العالية: "سألت أصحاب محمد عن قوله: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} فقالوا: كل من عصى الله فهو جاهل ومن تاب قبل الموت فقد تاب من قريب" وقال قتادة: "أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن كل ما عصي الله به فهو جهالة عمدا كان أو لم يكن وكل من عصى الله فهو جاهل" وقال مجاهد: "من شيخ أو شاب فهو بجهالة" وقال: "من عصى ربه فهو جاهل حتى ينزع عن خطيئته" وقال هو وعطاء: "الجهالة العمد" وقال مجاهد: "من عمل سوأ خطأ أو عمدا فهو جاهل حتى ينزع منه" ذكر هذه الآثار ابن أبي حاتم ثم قال وروي عن قتادة وعمرو بن مرة والثوري نحو ذلك خطأ أو عمدا وروي عن مجاهد والضحاك: "ليس من جهالته أن لا يعلم حلالا ولا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015