وهو بغضه وكراهته المستلزم لتركه فلم يكن الترك من الإيمان إلا بهذه الكراهة والبغض والامتناع والمنع لله وكذلك براءة الخليل وقومه من المشركين ومعبودهم ليست تركا محضا بل تركا صادرا عن بغض ومعاداة وكراهة هي أمور وجودية هي عبودية للقلب يترتب عليها خلو الجوارح من العمل كما أن التصديق والإرادة والمحبة للطاعة من عبودية القلب يترتب عليها آثارها في الجوارح وهذا الحب والبغض تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وهو إثبات تأله القلب لله ومحبته ونفي تألهه لغيره وكراهته فلا يكفي أن يعبد الله ويحبه ويتوكل عليه وينيب إليه ويخافه ويرجوه حتى يترك عبادة غيره والتوكل عليه والإنابة إليه وخوفه ورجاه ويبغض ذلك وهذه كلها أمور وجودية وهي الحسنات التي يثيب الله عليها وأما مجرد عدم السيئات من غير أن يعرف أنها سيئة ولا يكرهها بقلبه ويكف نفسه عنها بل يكون تركها لعدم خطورها بقلبه ولا يثاب على هذا الترك فهذا تكون السيئات في حقه بمنزلتها في حق الطفل والنائم لكن قد يثاب على اعتقاد تحريمها وإن لم يكن له إليها داعية البتة فالترك ثلاثة أقسام قسم يثاب عليه وقسم يعاقب عليه وقسم لا يثاب ولا يعاقب عليه فالأول ترك العالم بتحريمها الكاف نفسه عنها لله مع قدرته عليها والثاني كترك من يتركها لغير الله لا لله فهذا يعاقب على تركه لغير الله كما يعاقب على فعله لغير الله فإن ذلك الترك والامتناع فعل من أفعال القلب فإذا عبد به غير الله استحق العقوبة، والثالث كترك من لم يخطر على قلبه علما ولا محبة ولا كراهة بل بمنزلة ترك النائم والطفل، فإن قيل كيف يعاقب على ترك المعصية حياء من الخلق وإبقاء على جاهه بينهم وخوفا منهم أن يتسلطوا عليه والله سبحانه لا يذم على ذلك ولا يمنع منه، قيل لا ريب أنه لا يعاقب على ذلك وإنما يعاقب على تقربه إلى الناس بالترك ومرآتهم به وأنه تركها خوفا من الله ومراقبة وهو في الباطن بخلاف ذلك فالفرق بين ترك يتقرب به إليهم ومرآتهم به وترك يكون مصدره الحياء منهم وخوف أذاهم له وسقوطه من أعينهم فهذا لا يعاقب عليه بل قد يثاب عليه إذا كان له فيه غرض يحبه الله من حفظ مقام الدعوة إلى الله وقبولهم منه ونحو ذلك وقد تنازع الناس في الترك هل هو أمر وجودي أم عدمي والأكثرون على أنه وجودي، وقال أبو هاشم وأتباعه هو عدمي وأن المأمور يعاقب على مجرد عدم الفعل لا على ترك يقوم بقلبه وهؤلاء رتبوا الذم والعقاب على العدم المحض والأكثرون يقولون إنما يثاب من ترك المحظور على ترك وجودي يقوم بنفسه ويعاقب تارك المأمور على ترك وجودي يقوم بنفسه وهو امتناعه وكفه نفسه عن فعل ما أمر به إذا تبين هذا فالحسنات التي يثاب عليها كلها وجودية فهو سبحانه الذي حبب الإيمان والطاعة إلى العبد وزينه في قلبه وكره إليه أضدادها وأما السيئات فمنشأها من الجهل والظلم فإن العبد لا يفعل القبيح إلا لعدم علمه بكونه قبيحا أو لهواه وشهوته مع علمه بقبحه فالأول جهل والثاني ظلم ولا يترك حسنة إلا لجهله بكونها حسنة أو لرغبته في ضدها لموافقته هواه وغرضه وفي الحقيقة فالسيئات كلها ترجع إلى الجهل وإلا فلو كان علمه تاما برجحان ضررها لم يفعلها فإن هذا خاصة الفعل فإنه إذا علم أن إلقاءه من مكان عال يضره لم يقدم عليه وكذلك لبثه تحت حائط مائل وإلقاءه نفسه في ماء يغرق فيه وأكله طعاما مسموما ولا يفعله لعلمه التام بمضرته الراجحة بل هذه فطرة فطر الله عليها الحيوان بهيمة وناطقة ومن لم يعلم أن ذلك يضره كالطفل والمجنون والسكران الذي انتهى سكره فقد يفعله وأما من أقدم على ما يضره مع علمه