لنقصه فيجبره ليحصل له الكمال بما أجبره عليه والرب له الكمال المطلق من جميع الوجوه وكماله من لوازم ذاته لم يستفده من خلقه بل هو الذي أعطاهم من الكمال ما يليق بهم فالمخلوق يجبر غيره ليتكمل والرب تعالى منزه عن كل نقص فكماله المقدس ينفي الجبر، السادس أن المخلوق يجبر غيره على فعل يعينه به على غرضه لعجزه عن التوصل إليه إلا بمعاونته له فصار الفعل من هذا والقهر والإكراه من هذا محصلا لغرض المكره كما أن المعين لغيره باختياره شريك له في الفعل والرب تعالى غني عما سواه بكل وجه فيستحيل في حقه الجبر، السابع أن المجبور على ما لا يريد فعله يجد من نفسه فرقا ضروريا بينه وبين ما يريد فعله باختياره ومحبته فالتسوية بين الأمرين تسوية بين ما علم بالحس والاضطرار الفرق بينهما وهو كالتسوية بين حركة المرتعش وحركة الكاتب وهذا من أبطل الباطل، الثامن أن الله سبحانه قد فطر العباد على أن المجبور المكره على الفعل معذور لا يستحق الذم والعقوبة ويقولون قد أكره على كذا وجبره السلطان عليه وكما أنهم مفطورون على هذا فهم مفطورون أيضا على ذم من فعل القبائح باختياره وشريعته سبحانه موافقة لفطرته في ذلك فمن سوى بين الأمرين فقد خرج عن موجب الشرع والعقل والفطرة، التاسع أن من أمر غيره بمصلحة المأمور وما هو محتاج إليه ولا سعادة له ولا فلاح إلا به لا يقال جبره على ذلك وإنما يقال نصحه وأرشده ونفعه وهداه ونحو ذلك وقد لا يختار المأمور المنهي ذلك فيجبره الناصح له على ذلك من له ولاية الإجبار وهذا جبر الحق وهو جائز بل واقع في شرع الرب وقدره وحكمته ورحمته وإحسانه لا نمنع هذا الجبر، العاشر أن الرب ليس كمثله شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله فجعله العبد فاعلا لقدرته ومشيئته واختياره أمر يختص به تبارك وتعالى والمخلوق لا يقدر أن يجعل غيره فاعلا إلا بإكراهه له على ذلك فإن لم يكرهه لم يقدر على غير الدعاء والأمر بالفعل وذلك لا يصير العبد فاعلا فالمخلوق هو يجبر غيره على الفعل ويكرهه عليه فنسبه ذلك إلى الرب تشبيه له في أفعاله بالمخلوق الذي لا يجعل غيره فاعلا إلا بجبره له وإكراهه فكمال قدرته تعالى وكمال علمه وكمال مشيئته وكمال عدله وإحسانه وكمال غناه وكمال ملكه وكمال حجته على عبده تنفي الجبر.
فصل: فالطوائف كلها متفقة على الكسب ومختلفون في حقيقته فقالت القدرية هو إحداث العبد لفعله بقدرته ومشيئته استقلالا وليس للرب صنع فيه ولا هو خالق فعله ولا مكونه ولا مريدا له وقالت الجبرية الكسب اقتران الفعل بالقدرة الحادثه من غير أن يكون لها فيه أمر وكلا الطائفتين فرق بين الخلق والكسب ثم اختلفوا فيما وقع به الفرق فقال الأشعري في عامة كتبه: "معنى الكسب أن يكون الفعل بقدرة محدثة فمن وقع منه الفعل بقدرة قديمة فهو فاعل خالق ومن وقع منه بقدرة محدثة فهو مكتسب" وقال قائلون من يفعل بغير آلة ولا جارحة فهو خالق ومن يحتاج في فعله إلى الآلات والجوارح فهو مكتسب وهذا قول الإسكافي وطوائف من المعتزلة قال واختلفوا هل يقال أن الإنسان فاعل على الحقيقة فقالت المعتزلة كلها إلا الناشئ: "أن الإنسان فاعل محدث ومخترع ومنشئ على الحقيقة دون المجاز" وقال الناشئ: "الإنسان لا يفعل في الحقيقة ولا يحدث في الحقيقة" وكان يقول: "أن البارئ أحدث كسب الإنسان قال فلزمه محدث لا لمحدث في الحقيقة ومفعول لا لفاعل في الحقيقة" قلت وجه إلزامه ذلك أنه قد أعطى أن الإنسان غير فاعل