فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ}، فَإِنَّ الْحَاكِمَ لَيْسَ رَجُلًا خُصَّ مِنْ بَيْنَ النَّاسِ، فَقِيلَ لَهُ: احْكُمْ بِمَا شِئْتَ، فَإِنَّ هَذَا لَمْ يَكُنْ لِمَلَكٍ مُقَرَّبٍ، وَلَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَإِنَّمَا ائْتُمِنَ عَلَى حُكْمِ اللهِ تَعَالَى جَدُّهُ لِيَفْصِلَ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَيَحْمِلَ الْمُخْتَلِفِينَ عَلَيْهِ بِكُلِّ مَا قَالَهُ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ مَا لَيْسَ يَحْكُمُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَهُوَ مَرْدُودٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِمَّنْ قَالَهُ وَهُوَ غَيْرُ حَاكِمٍ، لِأَنَّهُ ائْتُمِنَ فَخَانَ، وَكَذَبَ عَلَى اللهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، وَاخْتِيَانُ الْأَمَانَةِ وَالْكَذِبُ عَلَى اللهِ شِقَاقٌ، وَاللهُ تَعَالَى يَقُولُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وَيَقُولُ: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] قَالَ: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ لَا يُوَلِّيَ الْحُكْمَ بَيْنَ النَّاسِ إِلَّا مَنْ جَمَعَ إِلَى الْعِلْمِ السَّكِينَةَ وَالتَّثَبُّتَ، وَإِلَى الْفَهْمِ الصَّبْرَ وَالْحِلْمَ، وَكَانَ عَدْلًا أَمِينًا، نَزِهًا عَنِ الْمَطَاعِمِ الدَّنِيَّةَ، وَرِعًا عَنِ الْمَطَامِعِ الرَّدِيئَةِ، شَدِيدًا قَوِيًّا فِي ذَاتِ اللهِ، مُتَيَقِّظًا مُتَحَفِّظًا مِنْ سَخِطَ اللهِ، لَيْسَ بِالنِّكْسِ الْخَوَّارِ فَلَا يُهَابُ، وَلَا الُمُنْفَطِمُ الْجَبَّارُ، فَلَا يُنْتَابُ، لَكِنْ وَسَطًا خِيَارًا، وَلَا يَدَعُ الْإِمَامُ مَعَ ذَلِكَ أَنْ يُدِيمَ الْفَحْصَ عَنْ سِيرَتِهِ، والتَّعَرُّفَ لِحَالِهِ وَطَرِيقَتِهِ، ويُقَابِلُ مِنْهُ مَا يَجِبُ تَغْيِيرُهُ بِعَاجِلِ التَّغْيِيرِ، وَمَا يَجِبُ تَقْرِيرُهُ بِأَحْسَنِ التَّقْرِيرِ، وَيَرْزُقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ - إِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَعْمَلُ بِغَيْرِ رِزْقٍ - مَا يَعْلَمُ أَنَّهُ يَكْفِيهِ، وَيُقَوِّي فِيمَا وَلَّاهُ يَدَهُ، وَيَشُدُّ أَزْرَهُ، وَبَسَطَ الْكَلَامَ فِيهِ إِلَى أَنْ قَالَ: وَيُتَوَقَّى أَنْ يُقَالَ فِي وِلَايَتِهِ: هَذَا حُكْمُ اللهِ، وَهَذَا حُكْمُ الدِّيوَانِ، فَإِنَّ هَذَا مِنْ قَائِلِهِ إِشْرَاكٌ بِاللهِ، إِذْ لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ، قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 62] كَمَا قَالَ: {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54]، وَقَالَ: {وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا} [الكهف: 26]