وعن غير أبي عبيدة، قال جرير يرثي الفرزدق:
لعمري لقد أشجى تميماً وهَدّها ... على نكباتِ الدهرِ موتُ الفرزدقِ
عَشيّةَ راحوا للفراقِ بنَعشِهِ ... إلى جَدث في هُوّةِ الأرضِ مُعمَقِ
لقد غادروا في اللحدِ مَن كانَ ينتمي ... إلى كل نجمٍ في السماء مُحلّقِ
ثوى حامِلُ الأثقال عن كلّ مُغرَمٍ ... ودامِغُ شَيطانِ الغشومِ السملّقِ
عِمادُ تميمٍ كُلها ولِسانهُا ... وناطَقُها البذّاخُ في كل منطِقِ
فمن لذوي الأرحامِ بعدَ ابنِ غالِبٍ ... لجِارٍ وعانٍ في السلاسلِ مُوثقِ
ومَن ليتيمٍ بعدَ موتِ ابنِ غالِبٍ ... وأمّ عيالٍ ساغِبينَ ودَردَقِ
ومَن يُطلِقُ الأسرى ومَن يحقِنُ الدّما ... يَداهُ ويشفي صدرَ حَرّانَ محنَقِ
وكم مِن دَمٍ غالٍ تحمّل ثِقلَهُ ... وكانَ حمولاً في وفاء ومَصدَقِ
وكم حِصنِ جَبّارٍ همُامٍ وسُوقَةٍ ... إذا ما أتى أبوابَهُ لم تُغلّقِ
تُفتّحُ أبوابُ المُلوكِ لوجههِ ... بغير حِجابٍ دونَةُ أو تملّقِ
لتَبك عليه الأنسُ والجِنُ إذ ثوى ... فتى مُضرٍ في كل غَربٍ ومشرقِ
فتىً عاشَ يبني المجدَ تسعينَ حِجةً ... وكانَ إلى الخيراتِ والمجد يرتقي
فما ماتَ حتى لم يخُلّفْ وراءهُ ... لحَيّةِ وادٍ صَولَةً غير مُصعَقِ
قال أبو عبيدة: فما غبر جرير بعد الفرزدق إلا قليلاً حتى هلك.
وحدثنا أبو عبيدة قال: حدثني أبو بسطام العدوي من بلعدوية قال: سمعت الفرزدق يقول لمضارب:
أتتني من الخبيث هدية فأنشدنيها. فأنشده فجعل يكني عن بعض ذلك، فقال الفرزدق: ويلك أنشدني
وأوجع، فإني أريد أن أنقض عليه. فأنشده وأوجعه، فاستلقى طويلاً ثم قال: ما له أخزاه الله ما أشعره،
نغترف من بحر واحد، ثم تضطرب ولاؤه عند النهز.