الصلاة والزكاة والصوم والحج والوضوء والغسل وغيرها من ألفاظ القرآن في سائر الأنواع من الأعمال والأعيان والأزمنة والأمكنة وغيرها = يعلم بالاضطرار، أنهم فهموا مراده من تلك الألفاظ التي خاطبهم بها أعظم من حفظهم لها، وهذا مما جرت به العادة في كل من خاطب قومًا بخطبة أو دارسهم علمًا، أو بلّغهم رسالة، وإن حرصه وحرصهم على معرفة مراده أعظم من حرصهم على مجرد حفظ ألفاظه.
ولهذا يضبط الناس من معاني المتكلم، أكثر مما يضبطونه من لفظه، فإن المقتضى لضبط المعنى أقوى من المقتضى لحفظ اللفظ لأنه هو المقصود واللفظ وسيلة إليه وإن كانا مقصودين، فالمعنى أعظم المقصودين، والقدرة عليه أقوى فاجتمع عليه قوة الداعي، وقوة القدرة، وشدة الحاجة.
فإذا كانوا قد نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول مبلغًا لها عن الله، وألفاظه التي تكلم بها يقينًا، فكذلك نقلهم لمعانيها، فهم سمعوها يقينًا، وفهموها يقينًا ووصل إلينا لفظها يقينًا، ومعانيها يقينًا، وهذه الطريقة إذا تدبرها العاقل علم أنها قاطعة، وأن الطاعن في حصول العلم بمعاني القرآن شر من الطاعن في حصول العلم بألفاظه، ولهذا كان الطعن في نقل بعض ألفاظه من فعل الرافضة.
وأما الطعن في حصول العلم بمعانيه، فإنه من فعل الباطنية الملاحدة، فإنهم سلموا بأن الصحابة نقلوا الألفاظ التي قالها الرسول، وأن القرآن منقول عنه، لكن ادعوا أن لها معاني تخالف المعاني التي يعلمها المسلمون، وتلك هي باطن القرآن وتأويله.
وقول القائل: الأدلة اللفظية لا تفيد اليقين = دهليز إلى مذهب هؤلاء ومرقاة إليه، لكن الفرق بينهما أنه يقول: لا أعلم مراد المتكلم بها، وهم يقولون: مراده هذه التأويلات الباطنة ...».