جاء اليهودي إلى عمر قال: «لقد نزلت عليكم آية لو نزلت فينا معشر اليهود لجعلنا يومها عيداً، فقال: أي آية؟ فقال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 3]». قال عمر: «والله إني لأعلم أين نزلت؟ نزلت على الرسول صلّى الله عليه وسلّم عشية عرفة» (?).
ومما نزل في مكة بعد الهجرة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، فقد روى ابن جرير عن ابن جريج: «قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} قال: نزلت في عثمان بن طلحة قبض منه النبي صلّى الله عليه وسلّم مفتاح الكعبة، فدخل به البيت يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه، فدعا عثمان فدفع إليه المفتاح.
قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الكعبة، وهو يتلو هذه الآية: فداه أبي وأمي، ما سمعته يتلوها قبل ذلك» (?).
وبهذا التحليل يمكن القول بأنه لا يوجد اختلاف أو تناقض بين من يحدد المكان وبين من يحدد الزمان، ومن ثمَّ فإننا لا نحتاج إلى طرح هذه الاعتبارات على أنها أقوال تحتاج إلى ترجيح بينها، وإنما نجعل الأصل اعتبار المكان، ونجعل اعتبار الزمان ضابطاً في المكي والمدني؛ لأن عدم ترجيح اعتبار المكان يناقض قول السلف، كقول عمر: «والله إني لأعلم أين نزلت في عرفة» (?)، ولم يقل: «متى نزلت»، ولا يتصور أن يُفهم أن عمر لا يدرك أنها نزلت بعد الهجرة، وإنما الظاهر من ذلك أنه حينما حدد المكان فإنه قد حدَّد الزمان، ولم يلغه، وعلى هذا يمكن القول بأن من عبر بالزمان من العلماء المتأخرين فإنه من باب التحرير وضبط المسألة وليس قولاً آخر يعارض القول بالمكان.