قَوْله تَعَالَى {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 60] وَالْمَعْنَى أَنَّ الْمُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَيْ: الْمُتَلَبِّسَ بِهِ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَلَى الْمَشْهُورِ وَيُعْطَى أَيْضًا لِأَجْلِ آلَةِ الْجِهَادِ: مِنْ سِلَاحٍ وَرُمْحٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آلَتِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُجَاهِدِ هُنَا مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْجِهَادُ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا ذَكَرًا مُسْلِمًا مُكَلَّفًا قَادِرًا كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونَ هَاشِمِيًّا كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ اللَّخْمِيِّ
(ص) كَجَاسُوسٍ (ش) يَعْنِي أَنَّ الْجَاسُوسَ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ وَلَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّهُ سَاعٍ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ: وَهُوَ شَخْصٌ يُرْسِلُهُ الْإِمَامُ لِيَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَاتِ الْعَدُوِّ وَيَعْلَمَ حَالَهُمْ، ثُمَّ يُعْلِمَنَا بِذَلِكَ لِنَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ
(ص) لَا سُورٍ وَمَرْكَبٍ (ش) يَعْنِي أَنَّ الزَّكَاةَ لَا يَجُوزُ عَمَلُ سُورٍ مِنْهَا وَلَا مَرْكَبٍ عَلَى الْمَشْهُورِ وَمِثْلُ السُّورِ وَالْمَرْكَبِ: الْفَقِيهُ وَالْقَاضِي وَالْإِمَامُ قَالَ فِي الْجَلَّابِ وَلَا يَجُوزُ صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَقَاتِ فِي غَيْرِ الْوُجُوهِ الْمُبَيَّنَةِ: مِنْ عِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ أَوْ بِنَاءِ الْقَنَاطِرِ أَوْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى أَوْ فَكِّ الْأَسَارَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْمَصَالِحِ
(ص) وَغَرِيبٍ مُحْتَاجٍ لِمَا يُوَصِّلُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ مُسَلِّفًا وَهُوَ مَلِيءٌ بِبَلَدِهِ (ش) أَشَارَ بِهَذَا إلَى الصِّنْفِ الثَّامِنِ مِنْ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْآيَةِ وَهُوَ آخِرُهَا، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ ابْنَ السَّبِيلِ؛ الْغَرِيبُ الْمُنْقَطِعُ يُدْفَعُ إلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ قَدْرُ كِفَايَتِهِ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِبَلَدِهِ لَكِنْ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ بِهِ إلَى مَا يُوَصِّلُهُ إلَى وَطَنِهِ، فَإِنْ كَانَ غَنِيًّا بِمَا يُوَصِّلُهُ فَلَا يُعْطَى؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ إنَّمَا هُوَ إيصَالُهُ إلَى بَلَدِهِ بِخِلَافِ الْمُجَاهِدِ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ مِنْهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا فِي الْمَوْضِعِ الْمُقِيمِ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِرْهَابُ.
الثَّانِي أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ أَمَّا لَوْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ كَمَنْ خَرَجَ لِقَتْلِ نَفْسٍ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ شَيْئًا إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ.
الثَّالِثُ أَنْ لَا يَجِدَ مُسَلِّفًا لَهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَهُوَ شَرْطٌ عَدَمِيٌّ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِيٍّ يَعْنِي إنَّمَا يُعْطَى إذَا لَمْ يَجِدْ مَنْ يُسَلِّفُهُ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ، فَإِنْ وُجِدَ وَهُوَ غَنِيٌّ انْتَفَى أَحَدُهُمَا فَانْتَفَى لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَخْذُهُ مِنْ الزَّكَاةِ فَإِنْ، وُجِدَ وَهُوَ فَقِيرٌ كَانَ وُجُودُهُ كَعَدَمِهِ فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ لِانْتِفَاءِ شَرْطِ ضِدِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ وَهُوَ فَقِيرٌ فَهُوَ مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ، وَلَوْ قَالَ: وَلَمْ يَجِدْ مُسَلِّفًا مُطْلَقًا أَوْ وَجَدَهُ وَهُوَ عَدِيمٌ بِبَلَدِهِ لَكَانَ أَظْهَرَ فِي إفَادَةِ الْمَعْنَى، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ (وَصُدِّقَ) إلَى أَنَّ الْغَرِيبَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ سَبِيلٍ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إذَا كَانَ عَلَى هَيْئَةِ الْفُقَرَاءِ إذْ لَا يَجِدُ مَنْ يَعْرِفُهُ بِذَلِكَ الْمَوْضِعِ قَالَ مَالِكٌ: وَأَيْنَ يَجِدُ مَنْ يَعْرِفُهُ وَظَاهِرُهُ بِغَيْرِ يَمِينٍ.
(ص) وَإِنْ جَلَسَ نُزِعَتْ مِنْهُ كَغَازٍ (ش) يَعْنِي أَنَّ كُلًّا مِنْ ابْنِ السَّبِيلِ وَالْغَازِي إذَا أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ لِيَغْزُوَ بِهِ أَوْ لِيُسَافِرَ إلَى بَلَدِهِ فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بَلْ جَلَسَ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَتُرَدُّ إلَى مَحَلِّهَا إلَّا أَنْ يُسَوَّغَ لَهُ الْأَخْذُ مِنْ الزَّكَاةِ بِوَصْفِ الْفَقْرِ، أَوْ غَيْرِهِ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُ، وَأَمَّا الْمِدْيَانُ إذَا أَخَذَ مِنْ الزَّكَاةِ لِأَجْلِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــQقَوْلُهُ: أَيْ الْمُتَلَبِّسَ بِهِ) أَيْ: فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَغْنَى عَنْ التَّقْيِيدِ بِذَلِكَ لِكَوْنِهِ أَتَى بِاسْمِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ التَّلَبُّسَ بِهِ يَحْصُلُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، أَوْ فِي السَّفَرِ لَهُ حَيْثُ اُحْتِيجَ لَهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُرَابِطُ الْمُتَلَبِّسُ بِالرِّبَاطِ (قَوْلُهُ: وَلَوْ كَانَ غَنِيًّا عَلَى الْمَشْهُورِ إلَخْ) وَمُقَابِلُهُ مَا نُقِلَ عَنْ عِيسَى بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ إذَا كَانَ مَعَهُ فِي غَزْوِهِ مَا يُغْنِيهِ وَهُوَ غَنِيٌّ بِبَلَدِهِ أَنَّهُ لَا يَأْخُذُ مِنْ الزَّكَاةِ (قَوْلُهُ: وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ آلَتِهِ) كَالْخَيْلِ إلَخْ وَيَبْقَى ذَلِكَ لِلْمُجَاهِدِينَ
(قَوْلُهُ: وَلَوْ كَافِرًا إلَخْ) أَيْ: وَلَوْ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ مُسْلِمًا جَاسُوسًا
(قَوْلُهُ: لَا سُورٍ) يَتَحَفَّظُ بِهِ مِنْ الْكُفَّارِ وَلَا مَرْكَبٍ يُقَاتِلُونَهُمْ فِيهِ؛ لِأَنَّ مَنْفَعَتَهُمَا أَعَمُّ مِمَّا هُوَ الْمَقْصُودُ الْآنَ (قَوْلُهُ: عَلَى الْمَشْهُورِ) وَمُقَابِلُهُ مَا قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ أَنَّهُ يُنْشَأُ مِنْهَا الْمَرَاكِبُ لِلْغَزْوِ وَيُعْطَى مِنْهَا كِرَاءُ النَّوَاتِيَّةِ وَيُبْنَى مِنْهَا حِصْنٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ (قَوْلُهُ: الْفَقِيهُ) أَيْ: يُدَرِّسُ، أَوْ يُفْتِي أَيْ: إذَا كَانُوا يُعْطَوْنَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِلَّا فَيُعْطَوْنَ، وَيُعْطَى الْفَقِيهُ وَلَوْ كَثُرَتْ كُتُبُهُ حَيْثُ كَانَ فِيهِ قَابِلِيَّةٌ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهِ قَابِلِيَّةٌ لَمْ يُعْطَ إلَّا أَنْ تَكُونَ كُتُبُهُ عَلَى قَدْرِ فَهْمِهِ وَقَوْلُهُ، وَالْإِمَامُ أَيْ: إمَامُ مَسْجِدٍ أَيْ: حَيْثُ أُجْرِيَ رِزْقُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِلَّا أُعْطُوهَا كَمَا فِي عب
(قَوْلُهُ: وَغَرِيبٌ) مُسْلِمٌ غَيْرُ هَاشِمِيٍّ (قَوْلُهُ: لِمَا يُوَصِّلُهُ) أَفْهَمَ أَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ لِمَا يُنْفِقُهُ فَإِنْ احْتَاجَ لِمَا يُنْفِقُهُ أُعْطِيَ لَهُ أَيْضًا وَهَلْ مُطْلَقًا، أَوْ يُجْزِي فِيهِ قَوْلُهُ: وَلَمْ يَجِدْ مُسَلِّفًا؟ .
(قَوْلُهُ: فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ) مُتَعَلِّقٌ بِغَرِيبٍ لِمَا فِيهِ مِنْ رَائِحَةِ الْفِعْلِ وَقَوْلُهُ: وَهُوَ مَلِيءٌ جُمْلَةٌ حَالِيَّةٌ مِنْ ضَمِيرِ " يَجِدْ " وَهُوَ جُزْءُ شَرْطٍ لَا شَرْطٌ (قَوْلُهُ: وَالْمَشْهُورُ إلَخْ) وَمُقَابِلُهُ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، الْمَشْهُورُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْغَازِي وَضَعُفَ بِعَطْفِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ فِي الْآيَةِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الْإِرْهَابُ) أَيْ: وَبِدَفْعِ الزَّكَاةِ لَهُ بِتَقَوِّي بَأْسِهِ فَيَحْصُلُ لِلْعَدُوِّ إرْهَابٌ (قَوْلُهُ: أَمَّا لَوْ كَانَ سَفَرُهُ فِي مَعْصِيَةٍ) أَيْ: بِأَنْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَأَمَّا الْعَاصِي فِيهِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُمْنَعَ إعْطَاؤُهُ كَمَا فِي التَّيَمُّمِ وَالْقَصْرِ فِي الصَّلَاةِ.
(قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ) أَيْ: وَإِلَّا أَنْ يَتُوبَ فَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ حُصُولَ التَّوْبَةِ مِنْهُ مُسَوِّغٌ لِإِعْطَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يُخَفْ عَلَيْهِ الْمَوْتُ كَذَا يَنْبَغِي، وَالْأَحْسَنُ مَا فِي شَرْحِ شب مِنْ أَنَّهُ إذَا خِيفَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ فَقَطْ، وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَوْبَةٌ لَا يُعْطَى حَيْثُ خَرَجَ لِقَتْلٍ، أَوْ هَتْكِ حُرْمَةٍ (قَوْلُهُ: فَيَنْتَفِي الْحُكْمُ) الْمُرَادُ بِهِ عَدَمُ الْأَخْذِ وَإِذَا انْتَفَى عَدَمُ الْأَخْذِ ثَبَتَ الْأَخْذُ فَالْحُكْمُ هُنَا غَيْرُ الْحُكْمِ الْمُتَقَدِّمِ، وَلَوْ قَالَ فَيَثْبُتُ الْحُكْمُ وَهُوَ الْأَخْذُ لِوُجُودِ شَرْطِهِ وَهُوَ الْفَقْرُ لَكَانَ أَحْسَنَ (قَوْلُهُ: لِانْتِفَاءِ شَرْطِ ضِدِّهِ) الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: لِوُجُودِ شَرْطِ ضِدِّهِ أَيْ: لِوُجُودِ شَرْطِ الْأَخْذِ وَهُوَ الْفَقْرُ، وَحَاصِلُهُ أَنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعٌ: أَنْ لَا يَجِدَ مُسَلِّفًا مُطْلَقًا، أَوْ وَجَدَ وَهُوَ عَدِيمٌ بِبَلَدِهِ فَلَوْ وَجَدَهُ وَهُوَ مَلِيءٌ بِهَا لَمْ يُعْطَ (قَوْلُهُ: إذَا ادَّعَى أَنَّهُ ابْنُ السَّبِيلِ) أَيْ: مُحْتَاجٌ لِمَا يُوَصِّلُهُ لِبَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ كَغَازٍ أُعْطِيَ بِرَسْمِ الْغَزْوِ وَلَوْ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ ابْتِدَاءً.