والرد على الجهمية والمرجئة هين سهل بفضل الله تعالى وهو: أن نأتي بالمقدمة التي قدموها ثم نهدمها، هذه المقدمة هي قولهم: الإيمان هو التصديق، واستدلوا بالآيات السابقة، فنقول: هذه المقدمة خاطئة لا نوافقكم عليها؛ لأن الإيمان قد يتعدى بنفسه، وقد يتعدى بالباء، وقد يتعدى باللام، وفي كل موضع من هذه المواضع التي يقع فيها الإيمان له معنى من المعاني، فقوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، نوافقكم على أن الإيمان هنا بمعنى: التصديق، ولكنه قد يتعدى بنفسه أو باللام: فإذا تعدى بنفسه فمعناه: التأمين الذي هو ضد التخويف؛ لقول الله تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش:3 - 4].
فقوله: ((وَآمَنَهُمْ)) هنا: ضد خوفهم، فهنا المقصود بالتأمين: ضد التخويف، ومن أسماء الله جل وعلا (المؤمن) أي: الذي أمّن عباده من الضلال وأمّن عباده من العذاب، أو أمّن عباده من أن يزيغ قلوبهم بعد أن ثبت الإيمان فيها، وبين لهم طريق الرشاد.
وقد جاء في الحديث: (إن الله لا يجمع لعبد أمنين ولا خوفين)، أي: لا يجمع الله لعبد في الدنيا والآخرة أمنين، فمن أمِنَه في الدنيا خوَّفه في الآخرة، ومن خافه في الدنيا أَمّنَه في الآخرة.
أما إذا تعدى الإيمان بالباء فيكون معناه: التصديق، وهذا هو الذي حصروا الإيمان كله فيه، قال الله تعالى: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة:136] فقوله: ((قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ} أي: صدقنا بالله؛ لأنه الخالق الرازق المحيي المميت؛ ولأن الله جل في علاه له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وكأن تقول: آمنت بالله، يعني: صدقت بالله؛ وأن تقول: آمنت برسول الله يعني: صدقت برسالة النبي صلى الله عليه وسلم.
كما قال الشافعي رحمه الله: آمنت بالله يعني: صدقت بوجود الله، وصدقت بربوبية الله، وصدقت بإلهية الله، وأنه المستحق للإفراد بالعبادة له سبحانه جل في علاه، قال: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله يعني: صدقت برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدقت أنه أرسل من قبل الله جل في علاه، أرسله بالحق، وأنه الصادق المصدوق.
وإذا تعدّى الإيمان باللام فيكون معناه: الانقياد والاستسلام التام والخضوع، قال الله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت:26]، فهذا لا يعني: أن لوطاً لم يكن مؤمناً بإبراهيم وأنه مرسل من ربه ثم آمن بعد ذلك، لأن لوطاً كان مؤمناً ومصدقاً أصالةً بأن إبراهيم نبي مثله، وإنما معنى الآية: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ}، أي: اتبعه على ما يريد، واستسلم لذلك، وسياق الآيات يدل على ذلك؛ لأن إبراهيم كان يدعوا الناس بأن يتبعوه فرفضوا ذلك، وما اتبعه إلا لوط.
وحتى يظهر المعنى جلياً ننظر في قول فرعون للسحرة عندما خروا سجداً لله جل في علاه وقالوا: {آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70] فقال لهم فرعون: {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [طه:71] يعني: اتبعتموه وخضعتم وانقدتم له، فالآية الأولى: بينت أنهم قد صدقوا، والدلالة على ذلك: أنهم خروا سجداً فقال لهم: صدقتم به، وفوق هذا تتبعونه على شريعته.
فإذاً: إذا تعدى الإيمان باللام فهو: الانقياد والاستسلام التام لله جل في علاه، وكذلك نقول لهم عن معنى الإيمان في اللغة: نحن لا نوافقكم على أنه محصور في معنى التصديق، بل هو يتعدى بنفسه فيكون معناه: التأمين الذي هو ضد التخويف، ويتعدى بالباء فيكون معناه: التصديق كما قلتم، ويتعدى باللام فيكون معناه: الانقياد والاستسلام والخضوع التام لله جل في علاه.
كذلك فإن الله لما مدح إبراهيم لم يمدحه على مجرد التصديق فقط، بل مدحه أشد المدح على الاستسلام، فقال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [البقرة:131] أي: استسلمت وخضعت وانقدت كل الانقياد لك يا رب! فكان المدح والمنة الأكثر عليه أنه استسلم استسلاماً تاماً لله جل في علاه.
فهؤلاء قد حصروا الإيمان في التصديق لغةً وشرعاً، ولذلك تراهم يأتون بالنقيض، يقولون: الإيمان هو التصديق، والكفر هو التكذيب فقط، وهم أيضاً حصروا الكفر كذلك في التكذيب فقط، ولهذا أخطأ من قال: إن الخلاف بين أهل السنة والجماعة وبين مرجئة الفقهاء الأحناف هو خلاف لفظي فقط، كما قال ذلك الطحاوي، فالخلاف هنا ليس خلافاً لفظياً، بل هو خلاف حقيقي؛ لأنهم حصروا الكفر في التكذيب، وحصر الكفر في التكذيب من البطلان بمكان.
بل إن أهل السنة والجماعة أجمعوا أن الكفر متعدد، وأنه ليس في التكذيب فقط، فإن من تجرأ على سب الله سبحانه وتعالى أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا دليل على أن قلبه قد استحل إهانة ربه سبحانه وتعالى، أو إهانة رسوله صلى الله عليه وسلم.