المذهب الثالث: مذهب إمامنا الإمام الشافعي، وهذا المذهب إن لم يكن هو أقوى المذاهب على الإطلاق فهو من أقوى المذاهب، والمحققون من أهل العلم عندما يرتبون المذاهب في القوة يقدمون مذهب الشافعي ويقولون: إن أكثر فقهاء المحدثين من الشافعية، فيقدمون الشافعية ثم الحنابلة، أو يقدمون المذهب الحنبلي ثم المذهب الشافعي.
قال مفخرة المصريين محقق كتاب الرسالة الشيخ أحمد شاكر: لو أمرت مجتهداً أن يقلد مجتهداً لأمرته أن يقلد الشافعي؛ فإن الله حباه نظراً ثاقباً في كتابه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
ومعنى كلام الشيخ أحمد شاكر: أنه لا يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً، فلو جاز لي أن آمره لأمرته أن يقلد الشافعي، والدليل على أن المجتهد لا يقلد المجتهد قول ابن مسعود: لا يكن أحدكم إمعة، والله يقول: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83]، فالذي يستنبط يرجع إليه ولا يرجع هو لأحد، وأيضاً يحرم عليه أن يقلد من جهة النظر، فهذا ازدراء منه لنعمة الله جلا في علاه، لأن الله حباه فهماً في الكتاب وأمره أن يكون من حملة الكتاب، وأمر الناس أن يرجعوا إليه، فلا يجوز له أن يزدري نعمة الله عليه وينزل من هذه الطبقة، قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ومفهوم الشرط من الآية: أنه لا يجوز لك أن تسأل إن كنت تعلم.
وقوة مذهب الشافعي تتجلى في تأصيله وأصول مذهبه، فقد جمع بين مدرسة الحديث ومدرسة الرأي، فأخذ علم الحديث من الإمام مالك وتشبع به حتى لقبه أهل العراق بناصر السنة، وذهب إلى محمد بن الحسن الشيباني وناظره وأخذ منه فقه مدرسة الرأي، فجمع بين علم الحديث وعلم الرأي، فكان فقيهاً ينزل النوازل في منازلها وكان يقدر الأمور كما سنبين في أصوله.
وهذا المذهب كتب الله له الانتشار في جميع أنحاء الأرض، أولاً: في العراق عندما كتب كتابه القديم، وهو المذهب القديم، وقد رحل إلى اليمن فانتشر مذهبه في اليمن، وقد كان أهل اليمن على مذهب مالك وبعدما ذهب الشافعي إلى اليمن صار أكثر اليمنيين شافعية، ومنهم زيدية، ومن أحسن كتب الفقه الشافعي: كتاب البيان للعمراني، وهو شرح آخر للمهذب غير المجموع، وهذا العالم يمني، وقد ظهرت في كتابه قوة أهل اليمن في مذهب الشافعية، ولما رجع الشافعي إلى مصر انتشر المذهب الشافعي في مصر، وتوفي الشافعي في مصر وهو مدفون في القاهرة، وتشرفت مصر بهذا الإمام المطلبي الذي هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جاء حديث فيه كلام لكن أحمد كان يأخذ به وهو: (يخرج على الدنيا عالم من قريش يملأ الدنيا علماً) قال أحمد: ما أراه إلا الشافعي.