الأضرب الثلاثة السابقة بالأحكام السابقة إن أكدنا للمنكِر أو المتردِّد لا إشكال فيه، تركنا التأكيد لخالي الذهن هذا هو الأصل، قد نعكس ونعامل خالي الذهن بمعاملة المنكِر أو بالعكس هذا يسمى خروجًا عن مقتضى [أو على مقتضى الظاهر] (?) على غير مقتضى الظاهر، إذًا قد يُخَالَف ويخرج الكلام على خلاف مقتضى الظاهر كما ذكره الناظم بقوله: (وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ بِالأَغْيَارِ). أي: تبديل ما يقتضيه الظاهر (بِالأَغْيَارِ) جمع غَير يعني بغيره، يعني: تبدل الخطاب لخالي الذهن بالخطاب للمنكر، وَتُبْدِل أو تُبَدِّل الخطاب للمنكِر بالخطاب لخالي الذهن، وهذا كثير حتى في القرآن ... (وَيَحْسُنُ التَبْدِيلُ) أي: تبديل ما يقتضيه الظاهر (بِالأَغْيَارِ) أي: بغير ما يقتضيه الظاهر، فحينئذٍ يُورِدُ الكلام الملقى إلى خالي الذهن عن النسبة كما يلقى إلى المتردِّد فيها، فيَصُبُّ أو يُصَبُّ لها الكلام في قالب واحد، فيلقى الكلام مؤكدًا إلى خال الذهن كما يلقى للمتردّد، وذلك إذا قدَّم له ما يُلَوّح بالخبر فتستشرف له نفسه استشراف المتردد الطالب حينئذٍ يحسن له أن يؤكد، بمعنى أن المؤكد إذا قدَّم قرينة تشير إلى أن خالي الذهن إذا أُلْقِيَ إليه الكلام فحينئذٍ يكون مترددًا في قبوله، فحينئذٍ يحسن التأكيد، بالمثال المشهور عند النحاة في قوله تعالى: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ}. هذا خُوطِب به نوح عليه السلام {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} هذا يشير إلى ماذا؟ يُشير إلى أمر ما أنه سيقع هل سيقع عذاب أم لا؟ هل سيقع إغراق أم لا؟

إذًا خالي الذهن من الكلام إذا أُلقي إليه مثل هذه القرينة حينئذٍ يستلزم شيئًا آخر ولذلك جاء ما بعده {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}، وهنا أُلْقِيَ قوله: ... {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}. إلى خالي الذهن ومع ذلك أكَّدَه لماذا؟ لأنه لَمَّا قال له أولاً {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} كأن المخاطَب قد استحدث في نفسه شيئًا وتشوقت نفسه إلى معرفة شيء وهو هل سيحل بهم العذاب أم لا؟ وهذا شأن متردِّد فلما أُلْقِيَ إليه الخطاب حينئذٍ أُكِّد بمؤكِّد واحد. هنا عومل خالي الذهن معاملة المتردِّد لوجود القرينة الدالة على ذلك، {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي: لا تدعوني يا نوح في شأن قومك. فهذا الكلام يلوح بماذا؟ يلوح بالخبر تلويحًا ويُشعر بأنه قد حقَّ عليهم العذاب فصار المقام مقام أن يتردّد المخاطب في أنهم هل صاروا محكومًا عليهم بالإغراق أو لا؟ صار عنده تردّد فقيل: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ} بالتأكيد.

إذًا هنا لو قيل: نوح عليه السلام خالي الذهن لأنه ما يدري ما يعلم فقال الله تعالى: {إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ}. لماذا أكد والأصل في خطاب خالي الذهن أنه ابتدائي فلا يؤكد له نقول: هنا نُزِّلَ خالي الذهن مُنَزَّلَة المتردّد لماذا؟ لكون ثَمَّ قرينة تدل على أن في نفسه قد وقع استشرافًا لشيء ما هل هم مغرقون أم لا؟ واضح هذا؟

وقد يُجْعَل المقر كالمنكِر إذا ظهر عليه شيء من أمارات الإنكار فيؤكد له الكلام تأكيد المنكِر نحو ماذا؟ قول الشاعر:

طور بواسطة نورين ميديا © 2015