هذه العلوم لا بد لها أن تكون معتبرة في علم البلاغة، بمعنى أنه لا بد أن يكون نحويًا صرفيًا، وأن يكون على علم بمتن اللغة يعني: المفردات، ماذا تستعمل العرب هذه الكلمة في أي معنى، هل هذه الكلمة مأنوسة مألوفة أم لا؟ هل هي شاذّة أم لا؟ حينئذٍ لا بد من الوقوف على متن اللغة.
إذًا تيميز الكلام الفصيح عن غيره يعني: معرفة أن هذا الكلام فصيح وذاك غير فصيح يعرف من غير الفنون الثلاثة، كون الكلام فصيحًا أو ليس فصيح مرده ليس إلى علم المعاني، ولا إلى علم البيان، ولا إلى علم البديع، لذلك من أين نعرف كيف يأخذون الفصاحة قيدًا في البلاغة ثم لا يذكرونها في هذه الفنون؟
نقول: لأن البلاغة مجموعة علوم أو مجموع علوم، يعني: ليست خاصة بهذه الفنون الثلاثة، بل هي مجموعة من علوم متعددة، وذلك لأنه شرط في فصاحة الكلام سلامته مما سبق، فمنه ما يَتَبَيَّنُ في علم متن اللغة، فمنه أي: ما يُمَيِّزُ
الفصيح من غيره ما يتبين بعلم متن اللغة، فهو العلم الذي يعرف به معاني المفردات إذ به يعرف الناظر أن في تَكْأَكَأْتُم مثلاً غرابة، لأنها ليست من الكلمات المأنوسة، وكذلك مُسَرَّجًا يعرف أن فيها غرابة، بخلاف اجتمعتم سراج، فليس فيها غرابة لأنه بمطالعة هذه الكتب حينئذٍ يقف على المفردات المأنوسة من غيرها، أو التصريف وهذا يعرف به سلامته من مخالفة القياس، أو النحو يعرف به السلامة من ضعف التأليف، أو التعقيد اللفظي، أو يدرك بالحس يعني: القوة السامعة والذي يدرك بالحس هو التنافر، سواء كان بين الحروف في الكلمة الواحدة أو بين الكلمات، وما يُحْتَرز به عن الأول الذي هو الخطأ في تأدية المعنى المراد هو علم المعاني.
إذًا قلنا: مرجع البلاغة إلى أمرين:
الاحتراز عن الخطأ في تأدية المعنى المراد، وهذا الذي يدرس في علم المعاني.
الثاني: التمييز تيميز الفصيح عن غيره، هذا بمجموعة علوم يعني لسان العرب نحوًا وصرفًا ومتنًا، وما يحترز به عن التعقيد المعنوي، هو علم ... البيان، التعقيد المعنوي هذا مثلنا له بماذا؟
..
وما مثله في الناس إلا مُمَلَّكًا
هذا تعقيد معنوي؟! لفظي هذا، لأنه بالتقديم والتأخير وَتَسْكُبُ عَيْنَايَ الدُّمُوعَ، لا، ليس مُسَرَّجًا، مسرجًا في اللفظ واحد فقط، مُسَرَّجًا.
لتجمدا. قلنا: الجمود استعمله في عدم البكاء مطلقًا، وإنما هو خاص في عدم البكاء عند إرادة البكاء، فالإنسان قد لا يريد البكاء فلا تسمه عينه جامدة، وإنما تُسَمَّى عينه إذا أراد البكاء.
إذًا التعقيد المعنوي يُحْتَرَزُ عنه بعلم المعاني، وما يعرف به وجوه تحسين الكلام هذا توابع البلاغة بعد رعاية تطبيقها على مقتضى الحال وفصاحته هو علم البديع.
إذًا المقصود من هذا الحديث أن البلاغة ليست موقوفة على العلوم الثلاثة، وإنما هي موقوفة على النحو والصرف والحس ومتن اللغة، وكذلك العلوم الثلاثة لأن مرجع البلاغة إلى الأمرين المذكرين.
وَالصِّدْقُ أَنْ يُطَابِقَ الْوَاقِعَ مَا ... يَقُولُهُ وَالْكذْبُ أَنْ ذَا يُعْدَمَا