الثاني أن يقام. يحذف شيءٌ ويأتي تعويضًا عنه بجملةٍ. مثاله قوله تعالى: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ} [فاطر: 4] أي إن يكذبوك هذا شرط فلا تحزن واصبر هذا جواب الشرط {فَقَدْ كُذِّبَتْ} ليس هو الجواب {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} ليس هذا تعليل، ليس هذا جوابًا للشرط {وَإِن يُكَذِّبُوكَ} فلا تحزن واصبر {فَقَدْ كُذِّبَتْ} .. إلى آخره. فقوله: {فَقَدْ كُذِّبَتْ} ليس جزاءً للشرط، لماذا؟ لأن تكذيب الرسل، الرسل متقدم على التكذيب {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ} هذا سابقٌ فأين الجواب؟ لا يكون جوابًا فلا يصح وقعه جزاءً له، بل هو سببٌ لمضمون الجواب المحذوف أقيم مقامه استغناء بالسبب عن المسبب. إذًا إذا حذف شيء إما أن يُؤْتَى ببدله بما ينوب عنه، وإما أن لا يأتي أو يُؤتى بشيءٍ، والغالب هو الأول يعني القرينة هي التي تدل على المحذوف ولا يذكر في كلام شيءٌ البتة. ثم الحذف على القاعدة العامة لا بد من دليلٍ يدل عليه، إذ حذف ما لا يدل عليه دليلٌ بعد الحذف لا يجوز باتفاق أهل العربية نحاةً والصرفيين والبيانيين، أن ما لا يدل عليه دليلٌ بعد الحذف لا يجوز، سواءٌ كان في الحروف عند الصرفيين أو في الكلام، وأدلته كثيرة يعني: الذي يدل على المحذوف أشار إليها بقوله: (وَمَا يَدُلُّ ** عَلَيْهِ أَنْوَاعٌ) والذي يدل على المحذوف أنواع كثيرة متعددة. وقوله: (عَلَيْهِ). الضمير يعود على الحذف (أَنْوَاعٌ) التنوين هو للتكثير متعددة، (وَمِنْهَا الْعَقْلُ) يعني لم يذكر إلا العقل، بأن يدل العقل على المحذوف لاقتضائه إياه، يعني لا يمكن أن يستقيم الكلام إلا بمحذوفٍ، لكن دلالةٌ عقلي على المحذوف ليست من جهة التعيين، يعني الكلمة المحذوفة معينة، العقل يدل على أن ثَمَّ حَذْفًا في التركيب، لكن ما هي هذه الكلمة؟ العقل لا يدل عليها، فالعقل يدل على العموم لا على الخصوص، يعني على عموم الحذف مطلق الحذف، هذا التركيب فيه حذفٌ، ويحتمل كذا وكذا وَكذا والتعيين يكون بالقرائن والسياق لا بالعقل، لكن دلالته يعني العقل عليه على المحذوف إنما هي على جهة العموم لا الخصوص، بأن تقتضي أن في الكلام حذفًا، وأما التعيين لخصوص المحذوف فلا دلالة للعقل عليه، واضحٌ هذا؟ فالعقل يدل على المحذوف على جهة العموم لأن في الكلام حذفًا فقط ويقف، ثم تعيين هذا المحذوف هذا يؤخذ من القرائن والسياق، فلا دلالة للعقل عليه، وإنما يدل عليه مقصود ظاهرٍ من الكلام يوجد في كل مقامٍ بحسب من ما يقتضيه العرف والمقام وسياق الكلام. يعني تعيين المحذوف يؤخذ بالقرائن لفظية، وأما كونه فيما الكلام محذوفًا حينئذٍ يؤخذ من العقل. كقوله تعالى: ... {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] أي تناولها. وإن شئت قل: أكلها. فإن العقل دلّ على أن في الكلام محذوفًا وذلك لأن الأحكام الشرعية كما هو معلوم عند الأصوليين لا تناط بالذوات والأعيان، يعني: لا يقال هذا حرام لذات الشيء نفسه، وإنما فعل العبد هو الذي يوصف بكونه حرامًا أو واجبًا.