(وَالتَقْدِيمُ) أي من طرق القصر تقديم ما حقه التأخير وهذا مرّ معنا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] هذا فيه تقديم المعمول على عامله، وهو أسلوب من أساليب القصر والحصر، تقديم ما حقه التأخير كتقديم المعمول على العامل فإنه يفيد الحصر، نحو: بنا مَرَّ. مرَّ زيد بنا، بنا لا بغيرنا. فيه قصر الصفة على الموصوف، وتَمِيمِيٌّ أَنَا يعني: لا قيسيّ. تَمِيمِيٌّ أَنَا هنا قدَّم الخبر على المبتدأ، تَمِيمِيٌّ هذا خبر مقدم وأَنَا مبتدأ مؤخر في قصر الموصوف على الصفة، أي لا قيسي ليس من قيس. إما قصر تعيين وذلك إذا قلته لمخاطب يدَّعِي أنك من قيس تردد أو من تميم من غير ترجيح، وإما قصر قلب إذا قلت لمخاطب يدعي أنك من قيس، وتَمِيمِيٌّ أَنَا، ولا يصلح مثال لقصر الإفراد بتنافي الوصفين، يعني لا يعتقد أنك تميمي وقيسي في وقت واحد، تحتاج إلى تعيين وهذا لا يتأتى، ومثاله قول: شَاعِرٌ أَنَا. لمن اعتقدك شاعرًا أو كاتبًا، واضح هذا؟
(وَالتَقْدِيمُ) يعني بما حقه التأخير، والمثال الأشهر {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}، ... {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُواْ} [المائدة: 23] فتوكلوا على الله، سواء كان المقدم مفعولاً به أو جارًا ومجرورًا أو غيره كما مر بالأمس زَيْدًا ضَرَبْتُ، يعني لا غيره. زَيْدًا ضَرَبْتُ لا غيره. (ثُمَّ) للترتيب الذكري (إِنَّمَا) يعني ومن طرق القصر (إِنَّمَا) بكسر الهمزة أثبته الجمهور ونفاه كثير، يعني فيه خلاف (إِنَّمَا) أَنَّمَا أثبتها الزمخشري.
ومثال قصر الصفة على الموصوف إفرادًا بـ إنما قوله تعالى: {إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171]. وعرفنا أن المقصور يأتي متأخرًا، وقلبًا إنما زيد قائم. وقصر الصفة على الموصوف إفرادًا وقلبًا: إنما قائم زيد. قصر الصفة على الموصوف.
هذه الطرق الأربعة هي المشهورات عند البيانيين، يعني: الحصر والقصر إنما يكون بـ (النفي والاستثناء، والعطف، والتقديم لما حقه التأخير، وإنما). فهذه الطرق الأربعة منها بعد ما عرفناها ما يدل على القصر بالوضع، ومنها ما يدل على القصر بفحوى الكلام يعني: بالمفهوم مع دلالة العقل، ولذلك قال الناظم: (دِلالَةُ التَّقْدِيمِ بِالفَحْوَى) يعني بمفهوم الكلام ليس بالنص، (وَمَا ** عَدَاهُ بِالْوَضْعِ) يعني: بوضع العرب لهذا المعنى هذا التركيب، ووضعت العرب (ما) و (إلا) منطوقًا بهما لإفادة القصر، و (إنما) منطوق بها لإفادة القصر، و (لا) و (بل) لإفادة القصر بأنواعه، بقي ماذا؟ التقديم، التقدِيم العرب لم تقدم وتؤخر في الأصل، وإنما وضعت الترتيب العام الذي يسمى الوضع النوعي، ثم إذا قدم وأخر المتكلم فحينئذٍ يكون شيئًا من عند نفسه أراد به معنًى تعلق في ذهنه وهو الحصر والقصر. إذًا الذي يُفهم من دلالة التقديم من حيث كونه قصرًا إنما هو بالعقل يعني: فحوى الكلام. والذي يُفهم من دلالة القصر لبقية الأنواع الثلاث حينئذٍ نقول: هذا بالوضع. والمسألة طويلة عريضة في كتب البيانيين والأصوليين.