قال الموفق رحمه الله: [وقال تعالى: {فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} [التوبة:124]، وقال: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً} [الفتح:4]].
هذه أدلة على زيادة الإيمان، وأن الله سبحانه وتعالى ذكر زيادة الإيمان في كتابه ذكراً محكماً، والإيمان يزيد من جهة التصديق، ويزيد من جهة أعمال القلوب، ويزيد من جهة أقوال اللسان، ويزيد من جهة أعمال الجوارح، فالإيمان في سائر هذه الموارد يزيد وينقص، وهذا يدلك على أن الإيمان له أصل وكمال وأصله: ما يقع به الدخول في الدين.
فإذا قيل: ما معنى نفي الشارع للإيمان؟
قيل: نفي الإيمان عن شخص مسلم يكون سببه أنه ليس محققاً لواجبات الإيمان المطلق، فإن من لم يحقق واجبات الإيمان المطلق المذكورة في قول الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] ..
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] إلى آخر الآيات، فإن اسم الإيمان ينفى عنه حال فعله للكبيرة أو حال ذكر التزكية له.
والله سبحانه وتعالى في كتابه قد نفى اسم الإيمان لمن معه أصل الإيمان وهو من المسلمين في أحد مقامين: إما أن يكون المقام نفياً للتزكية؛ كقوله الله تعالى: {قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فهم أرادوا أن يسووا بالمهاجرين والأنصار، والقوم في الغالب على أقل من هذا، فقال الله: (قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا) أي: لم تؤمنوا الإيمان المطلق الواجب، {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14] أي: لم يتحقق؛ لأن الإيمان إذا تحقق بالقلب تحقق في أعمال الجوارح الظاهرة.
إذاً: ينفي الله أو رسوله عليه الصلاة والسلام اسم الإيمان عن قوم ذكروا التزكية وهم ليسوا من أهل تحقيقها، أو ينفي الإيمان عن صاحب كبيرة أثناء إصراره على كبيرته وقبل توبته منها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين عن أبي هريرة: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة ذات شرف يرفع الناس إليه بها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن).
وهنا لم النبي يرد عليه الصلاة والسلام أنه تجرد من الإيمان كله، حتى من قال من بعض المتأخرين على هذا الحديث: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) أنه عند الزنا يعدم الإيمان، ثم إذا انتهى من الزنا أو من كبيرته أو من سرقته رجع إليه الإيمان، هذا قول فهمه غلط من كلام أبي هريرة وابن عباس، وهما لم يردا أنه حال الزنا يعدم الإيمان، ثم يرجع الإيمان إليه، هذا كجدل عقلي -أيضاً- ممتنع، ويلزم عليه أنه لو مات حال شرب الخمر أو حال السرقة يكون كافراً، ويلزمه أن يكون خرج من الإسلام إلى الكفر ثم رجع إليه، وهذا لم يرد عن أحد من الصحابة.
والشاهد من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد نفي أصل الإيمان، والدليل على ذلك من السنة حديث أبي ذر في الصحيحين، قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو نائم عليه ثوب أبيض، ثم أتيته فإذا هو نائم، ثم أتيته وقد استيقظ، فقال: ما من عبد يشهد أن لا إله إلا هو وأني رسول الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة -وفي رواية: -إلا حرم الله عليه النار- قال أبو ذر: يا رسول الله! وإن زنا وإن سرق؟ قال: وإن زنا وإن سرق.
قال: وإن زنا وإن سرق.
قال: وإن زنا وإن سرق.
قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر).
إن فقه الأسماء الشرعية في القرآن من أجل الفقه، فهو لا يؤخذ مقاماً واحداً، ومن يأخذ مقاماً واحداً فتلك طريقة أهل البدع، فتجد من يقول: الجهل ليس عذراً في التكفير، ويستدل بقول الله تعالى: {خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] ونقول له: إن الله وصف كل من خالف الرسول بأنه من الجاهلين.
وقال في موضع آخر: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146] مع أنهم جاهلون، ودخلوا في اسم الجاهلين في الآية الأخرى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل:14]
إلخ.
إذاً ..
لا بد من جمع مقامات القرآن وسياقاته؛ حتى لا يقع تعارض في الفهم بين كلام الله، أو يؤخذ بعضه ويترك بعضه كما صنعت الخوارج والمرجئة، هؤلاء أخذوا أحاديث آيات وأحاديث الوعيد، وهؤلاء على العكس.