زيادة الإيمان ونقصانه

قال الموفق رحمه الله: [يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان].

هذا التعبير (يزيد وينقص) اختلف كلام السلف فيه اختلافاً لفظياً.

منهم من يقول: يزيد وينقص.

وهذا هو الذي عبر به جمهورهم.

ومنهم من يقول: إن الإيمان يتفاضل، وهذا تعبير عبد الله بن المبارك وجماعة من السلف.

ومنهم من يقول: إنه يزيد، ويسكت عن لفظ النقصان، وهو أحد أجوبة مالك، وإلا فعن مالك جواب بالتصريح بلفظ الزيادة والنقصان، ولذلك نرى طائفة من المالكية وبعض من تكلم عن مذهب مالك في الإيمان من المرجئة وبعض أهل السنة المتأخرين ولا سيما الشراح قالوا: إن مالكاً في إحدى الروايتين عنه يذهب إلى زيادة الإيمان، ولكنه لا يقول بنقصانه، ثم منهم من يقول: إنه ينفي نقص الإيمان، ومنهم من يقول: إنه يتوقف في نقص الإيمان، وكلا الفهمين لقول مالك غلط، فإن مالكاً رحمه الله إنما توقف في لفظ النقصان؛ لأن لفظ النقصان لم ينطق به القرآن، إنما في القرآن ذكر زيادة الإيمان وليس فيه ذكر نقصه، والتوقف في اللفظ لا يستلزم التوقف في المعنى؛ فضلاً عن نفي معناه.

فمن هنا قال مالك رحمه الله في بعض جواباته قطعاً لشبهة المرجئة وغيرهم الإيمان: يزيد.

ومن أقر بالزيادة لزمه أن يقر بالنقصان، ولهذا إذا قلت: ما دليل السلف على نقص الإيمان؟ قيل: الأدلة على زيادته؛ ولهذا سئل الإمام أحمد: الإيمان يزيد وينقص؟ قال: نعم.

قيل: أين هو في كتاب الله؟ فذكر الآيات التي فيها ذكر زيادته، قيل: ونقصه؟ قال: كما يزيد ينقص، أي: إذا سلم بزيادته لزم ضرورةً عقلية أنه ينقص، فهذا من فقه الإمام مالك رحمه الله.

ومن التعبيرات الشائعة عند المتأخرين أنهم يقولون: يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وهو في الغالب يرتبط بالتعبير الذي يقول: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان

إلخ.

وأتم هذه التعبيرات من يقول: يزيد وينقص؛ وذلك لأنك أعدت الزيادة والنقصان على جميع موارد الإيمان، بخلاف ما إذا عبرت بكلمة (يتفاضل) فإنها أقل في التحصيل والتفصيل من عبارة (يزيد وينقص)، وإن كانت صحيحة لكنْ فيها إجمال، وعبارة: (يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية) صحيحة، لكن قد يتبادر منها أن زيادة الإيمان ونقصانه متعلق بأعمال الجوارح، وهذا ليس صحيحاً، بل الإيمان يزيد وينقص في سائر موارده، وإن كان يُقصد بالطاعة: الظاهرة والباطنة، لكن الناس غالباً يتبادر إلى ذهنهم الطاعات الظاهرة والمعاصي الظاهرة، ولذلك يُقال: يزيد وينقص؛ ليبين أن هذا شمول وعموم؛ وإلا فلا شك أن التعبير بأن الإيمان يزيد بالطاعة تعبير صحيح.

ودليل القول بزيادة الإيمان ونقصانه: الكتاب والسنة والإجماع، وما من أصل من أصول السلف إلا ودليله الكتاب والسنة والإجماع.

أما المخالفون لقول السلف في هذه المسألة فهم على قسمين:

القسم الأول: الوعيدية من الخوارج والمعتزلة ومن يشاركهم من بعض طوائف الشيعة الذين تأثروا بقول المعتزلة وذهبوا إلى طريقتهم من الزيدية، هؤلاء يقولون: إن الإيمان قول وعمل، وهو عندهم لا يزيد ولا ينقص، فمن ترك واجباً من واجبات الإيمان فقد عدم الإيمان، وإذا عدم الإيمان يسمونه إما كافراً كما تقول الخوارج، وإما فاسقاً قد عدم الإيمان، وأخذ منزلة الفسق المطلق كما هي طريقة المعتزلة.

وقول الوعيدية لا شك أنه قول غلاة المسلمين، وهم الخوارج الذين أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنهم، وقولهم بدعة وضلالة وخروج عن السنة والهدى.

القسم الثاني: المرجئة، والإرجاء هو مسلك في الإيمان؛ وكل من سلك مادة هذا المسلك سمي من المرجئة، وقد قال أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين: "إن المرجئة ثنتا عشرة فرقة، منهم الغلاة، ومنهم دون ذلك".

فغلاة المرجئة هم الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو العلم والمعرفة، وأخف المرجئة إرجاءً هم من يسمون بمرجئة الفقهاء.

إذاً: بقية الأقوال في الإيمان كلها بدع وضلال، وأصحابها ليسوا من العارفين بالسنة ولا من أهلها، وإنما هم من أئمة البدعة والضلالة، باستثناء القول الذي يوصف بأنه قول مرجئة الفقهاء، هذا هو القول الذي نحتاج أن نقف معه.

مرجئة الفقهاء: هم قوم من علماء السنة والجماعة من أهل الكوفة، كانوا على عناية بالفقه أكثر من عنايتهم بالحديث والأثر وذلك لما صاحب حال الكوفة في ذلك الزمان من اشتهار الفقه وعدم اشتهار الرواية، فكانت الرواية في بعض الأمصار العراقية والشامية والحجازية أكثر مما وقع لأهل الكوفة؛ ولهذا غلب على أئمة الكوفة القياس والفقه والرأي.

والمقصود: أن طائفة من علماء أهل السنة والجماعة غلطوا في هذه المسألة، وقالوا: الإيمان قول باللسان، واعتقاد بالقلب، وأعمال الجوارح لا تسمى إيماناً، فهم لا يدخلون أعمال الجوارح في مسمى الإيمان، ولهم نتائج أخرى في قولهم، لكن هذا هو أخص ما ذهبوا إليه.

والذي ابتدع هذا القول هو حماد بن أبي سليمان، وقد كان من كبار فقهاء الكوفة، ومن علماء أهل السنة والجماعة، ولكنه أخطأ في هذه المسألة وخالف غيره من السلف، بل وخالف شيوخ الكوفة من قبله، وخالف شيخه إبراهيم النخعي، الذي كان شديداً على الإرجاء والمرجئة، وأشهر من تقلد هذا المذهب بعد حماد هو الإمام أبو حنيفة النعمان صاحب المذهب المعروف، فبتقلد أبي حنيفة لقول حماد اشتهر هذا القول؛ لكثرة أصحاب أبي حنيفة وشيوعهم فيما بعد.

إذاً: قول مرجئة الفقهاء هو إخراج الأعمال الظاهرة عن مسمى الإيمان، لكنهم يجعلونها براً وتقوىً وطاعة

إلى غير ذلك، فهم يسمونها إسلاماً، لكنهم لا يجعلونها داخلة في مسمى الإيمان، ويحتجون ببعض الدلائل التي يأتي التنبيه إليها، كقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:277] فقالوا: إن الله فرق بين الإيمان والعمل

إلى نحو ذلك من استدلالاتهم.

ومرجئة الفقهاء لم يطعنوا في أحاديث الصحابة كما تطعن الخوارج، ولم يستدلوا بعلم الكلام كما يستدل به المرجئة الغالية كـ الجهم بن صفوان وأمثاله، بل كان استدلالهم من جنس استدلال السلف، كما أنهم لم يعرفوا ببدعة أخرى.

وقولهم هذا لا يسمى اجتهاداً مما يسوغ فيه الاجتهاد بل هو بدعة مخالف للإجماع؛ وشيخ الإسلام ابن تيمية له سياقان في هذه المسألة: فتارة يقول: والجمهور من السلف يقولون: الإيمان قول وعمل، وخالف في ذلك حماد بن أبي سليمان ومن وافقه من فقهاء الكوفة، وبهذا السياق عند ابن تيمية قد يفهم البعض أنه قول الجمهور.

وهناك سياق آخر يقول فيه: وقد أجمع السلف على أن الإيمان قول وعمل، وحكى هذا الإجماع غير واحد كـ وكيع وعبد الرحمن بن مهدي والإمام أحمد والشافعي

إلخ.

وليس بين سياقي كلام شيخ الإسلام شيء من التعارض؛ لأننا إذا أردنا تقرير دليل السلف على قولهم: الإيمان قول وعمل، وأن أعمال الجوارح داخلة في مسمى الإيمان، قيل: دليلهم الكتاب والسنة والإجماع.

أما حماد بن أبي سليمان ومن وافقه فهم مخصومون بالإجماع قبلهم؛ من الصحابة ثم التابعين

إلخ، وقبل حماد ليس هناك اختلاف بين أهل السنة، وحكاية إجماع السلف لا تستلزم أن حماداً ليس من أهل السنة؟

فـ شيخ الإسلام رحمه الله إذا أراد تقرير الدليل على قول السلف قال: وهو إجماع عند السلف، وإذا أراد بيان حقيقة حماد ومن معه ومقامهم عند أهل السنة قال: إنه قول الجمهور؛ فليس بين كلام شيخ الإسلام رحمه الله شيء من التعارض.

وبدعة حماد ليست من بدع العقائد المغلظة، وإنما هي من بدع الأقوال والأفعال، كما نص على ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فالسلف عدوا قوله بدعة وذموه ذماً شديداً على قوله، وذموا مقالته، لكنهم لم يخرجوا حماداً ومن وافقه من دائرة السنة والجماعة بهذا القول.

وهذا من فقه السلف، وبه تعرف أن من زل في بدعة ما قد لا يخرج من دائرة أهل السنة، وأحياناً قد تكون بدعةً يسيرة، وأحياناً قد تكون بدعة فعلية وبدعة قولية؛ بمعنى أن لا تقارن أبداً ببدعة من أخرج العمل عن مسمى الإيمان، ومع ذلك تجد من يتعجل ويصف من خالف في هذه البدعة المعينة -التي ليست بقدر بدعة حماد - مباشرة بخروجه من دائرة أهل السنة، ويصفه بأنه من أرباب البدعة، ومن دعاة الضلال، ويشنع عليه، والسلف رحمهم الله ذموا حماداً ومقالته، لكن بقي لهم بقية أنهم يجعلونه من أئمة السنة والجماعة وإن كان قوله بدعة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015