قال الموفق رحمه الله: [والإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، وعقد بالجنان].
القول في مسمى الإيمان هو أول أصل حصل فيه نزاع بين أهل القبلة، والمراد بأهل القبلة؛ هم السواد من المسلمين من أهل السنة أو غيرهم.
وهذا الخلاف ظهر في خلافة علي بن أبي طالب، لما أظهر الخوارج القول بأن مرتكب الكبيرة كافر، وأنه مخلد في النار، وهذا مبني على قولهم الباطل في مسمى الإيمان.
وأئمة السلف رحمهم الله أجمعوا على أن الإيمان قول وعمل، وإنما اختلفت ألفاظهم وحروفهم، فالجمهور من أئمة السلف قالوا: الإيمان قول وعمل، وبعضهم قال: الإيمان قول وفعل، كما عبر بذلك البخاري في الرواية المشهورة عنه في صحيحه ..
ومنهم من عبر بأن الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، وعمل بالأركان، كما هو التعبير الذي ذكره المصنف، وهو قول الشافعي وجماعة من السلف، وهذا التعبير الثالث هو المشهور في كلام المتأخرين من أهل السنة.
ومن التعابير السلفية أيضاً ما ذكره بعض عباد السلف ونساكهم؛ كـ سهل بن عبد الله التستري أنه قال: "الإيمان قول وعمل ونية واتباع للسنة".
وهذه التعابير السلفية وغيرها هل الخلاف بينها لفظي، أم خلاف تنوع، أم خلاف تضاد؟
نقول: الاختلاف بينها لفظي والخلاف اللفظي تكون فيه المعاني من جهة مراد أصحاب الألفاظ معانٍ واحدة لا فرق بينها، ولا اختصاص لواحد منها عن الآخر، أما خلاف التنوع فلا تكون المعاني يصدِّق بعضها بعضاً، ولكن بينها اختصاص، كأسماء الله سبحانه وتعالى، فهي متعددة: السميع، البصير، العزيز، الحكيم
فتجد أن كل اسم يختص بمعنى لم يذكر في الآخر بنفس الدرجة، وإن كان قد يكون لازماً في الاسم الآخر ..
وهلم جراً.
إذاً ..
تعابير السلف في مسمى الإيمان الاختلاف بينها لفظي محض.
فإذا قيل: أي هذه التعابير أجمع وأحكم من جهة التعبير؟
قيل: أحكمها ما عبر به جمهورهم، وهو قولهم: الإيمان قول وعمل؛ وهذه الجملة أحكم من التعبير الذي ذكره الموفق رحمه الله.
لأن فيها إبانة لتضمن العمل للظاهر والباطن، والقول الظاهر والباطن، كما أن فيها إشارةً إلى التلازم بين الظاهر والباطن، فإن العبارة التي ذكرها المصنف هي الصحيحة، لكن حين يقال: الإيمان قول باللسان، وعمل بالأركان، واعتقاد بالجنان.
فإن هذا يُفهم منه أن الجنان -الذي هو القلب- ليس فيه إلا الاعتقاد، وأن الأعمال هي أعمال الجوارح، مع أنك تعلم أن الأعمال القلبية في الجملة أجل وأعظم من أعمال الجوارح الظاهرة التي أعمال الأركان.
والمتكلمون من السلف يقصدون دخول أعمال القلب في الإيمان، لكن هذا التعبير فيه اختصار، ولذلك نقول: إن التعبير الذي يقول: الإيمان قول وعمل أتم وأحسن، وهو الذي عبر به جمهور السلف.
لكن قد يقول قائل: إن هذا التعبير ليس فيه ذكر للاعتقاد.
نقول: لما قال السلف: الإيمان قول وعمل.
أرادوا بالقول: قول القلب وقول اللسان، وأرادوا بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح.
أما قول القلب: فهو كل تصديق شرعي أخبر الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم به.
وقول اللسان: النطق بالشهادتين وغيرها مما يكون باللسان.
وعمل القلب: هو حركته بهذا التصديق بأعماله المناسبة له، مثل: المحبة، والخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل
وغير ذلك.
وعمل الجوارح: كالصلاة والطواف بالبيت، والحج
إلى غير ذلك من الأعمال الظاهرة.
والأعمال القلبية ثبوتها في النفس من جنس ثبوت الأعمال الظاهرة، فإن كل عاقل يدرك ما في قلبه من المحبة أو الخوف أو الرجاء أو التعظيم أو الإنابة أو الاستعانة أو غير ذلك من أعمال القلوب، بل إن ثبوت أعمال القلوب أخص من ثبوت أعمال الجوارح؛ ولذلك ليس هناك في الشريعة عمل واحد من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب، فإذا تجرد أي عمل ما من أعمال الجوارح الشرعي عن القلب تصديقاً وعملاً لا يصير عملاً شرعياً، فقد يكون نفاقاً كالمنافق إذا أظهر الصلاة وليس في قلبه التصديق، وقد تكون صورته صورة العمل الشرعي وهو ليس شرعياً، كشخص اغتسل من الجنابة أو لغسل الجمعة أو نحو ذلك مما شرع الغسل له كدخول مكة، فإذا اغتسل على قصد التقرب، قيل: غسله عبادة مشروعة، وإذا اغتسل تبرداً أو تنظفاً فهذا ليس من العبادات المقصودة لذاتها.
إذاً: عمل القلب أثبت من أعمال الجوارح، وذلك لأنه لا يمكن أن يوجد عمل من أعمال الجوارح إلا وهو مبني على عمل القلب وتصديقه، فهذا التعبير الذي عليه الجمهور من السلف هو الصواب من جهة إحكام الألفاظ، وإلا فمعاني السلف كلها متفقة.