الحسنات الكبيرة كالحج والجهاد تكفر الكبيرة اطراداً والتوبة الخاصة تكفر الكبائر عروضاً، وفي هذا الحديث: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) والحديث متفق عليه.
وكثير من المتأخرين يرون هذا في الصغائر، وهذا ليس بصحيح، ومن يحكي إجماع السلف على ذلك فقد غلط كما نبه على ذلك الإمام ابن تيمية رحمه الله.
نعم! السلف أجمعوا على أن لا يقال: إن الحسنات تطرد بتكفير الكبائر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة ..
كفارة لما بينهما إذا اجتنبت الكبائر) وهذا ليس مشكلاً ودليلاً على أن الصلاة لا تكفر الكبائر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم هنا التكفير المطرد، وهذا الحديث هو الذي أشكل على أكثر المتأخرين، وفسروا حديث: (من حج فلم يرفث ...) أنه في الصغائر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم يغتسل منه ...) في الصغائر، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن العاص: (الهجرة تهدم ما كان قبلها) في الصغائر، و: (الحج يهدم ما كان قبله) في الصغائر، بل الله يقول: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، يقولون: في الصغائر.
من أين هذا؟
ومن زعم أن هذا إجماع السلف فقد غلط، إنما السلف أجمعوا على أن التكفير المطرد يكون بالتوبة، وأما التكفير العارض فيكون بأسباب كثيرة، ومنها: الحسنات؛ كالصلاة والجهاد والحج
إلخ.
وأما قوله: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة
كفارة لما بينهما) فالشارع هنا يذكر التكفير المطرد؛ لأنه يقول: كفارة لما بينهما، هل قال: لبعضها، أو قال: لما قد يعرض؟ أو قد تكفر؟ إنما قال: (كفارة لما بينهما)، وهذا تكفير مطرد عام للصغائر ولا شك، لكن هل يمنع أن الصلاة تكفر كبيرة من الكبائر؟
لا يمنع ذلك، وليس في القرآن ولا السنة نفي ذلك، بل في الكتاب والسنة تقرير ذلك، كما في الصحيح عن عمرو بن العاص لما أتى يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم بسط يده، قال عمرو: (فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟! قال: أردت أن أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قال: أن يغفر لي) فهل كان عمرو بن العاص يسأل عن مغفرة الصغائر أم كان يسأل عن تكفير الجرائر الكبرى؟ وهل كان في قاموس الجاهليين مسألة الصغائر والكبائر، وهل كان عمرو بن العاص يقتنع أن الإسلام يكفر الشرك والكبائر، ولم يبق إلا الصغائر لذا أراد أن يشترط تكفيرها؟!
لا.
بل قال عليه الصلاة والسلام: (يا عمرو! أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله) الإسلام هو التوحيد، لكنه قال بعد ذلك عليه الصلاة والسلام بعد ذلك: (الهجرة تهدم ما كان قبلها، والحج يهدم ما كان قبله) هذا كلام على الحقيقة، ومن قال من المتأخرين: هذا طمأنة لنفس عمرو فهو مخطئ على الشارع، إذ كيف يكون طمأنة لنفس عمرو وهو لا حقيقة له؟ بل هو طمأنة لنفس عمرو مع كونه على الحقيقة.
أما المتأخرون في الغالب فإنهم يشتغلون بفرضيات نظرية لا وجود لها في الخارج، فلو حقق الحج أركان الإسلام بصدق ظاهراً وباطناً هل هو من أصحاب الكبائر؟ لا.
يستحيل أن يوجد مثل هذا في الواقع، فالنبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن قراءة الخوارج، وقال: (يقرءون القرآن لا يجاوز تراقيهم)، مع أنه قال: (وقراءتهم خير من قراءتكم) أي: من جهة الأحوال الظاهرة التي قد يراها الناس، وقال: (تحقرون صلاتكم مع صلاتهم)، ومع ذلك فإن الأعظم والأضبط في الإيمان وتحقيقه هم الصحابة رضي الله عنهم، فصلاة الصحابة وصيامهم وقراءتهم هي المحققة والمؤثرة، فقضية الاعتبار بالظواهر تتمثل في أهل البدع، فهو يحسن الصلاة، أو الحج، إلا أنه يأتي الكبائر.
فالتحقيق تحقيق في الظاهر وتحقيق في الباطن، وتحقيق الباطن معناه ثبوت أمرين:
الأمر الأول: متابعة السنة، وصاحب البدعة ليس على سنة في كثير من أفعاله.
الأمر الثاني: الإخلاص لله، وهذا هو العمل الحسن المذكور في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2]، أي: يكون خالصاً صواباً، ظاهراً وباطناً، ولذلك يقول الله في القرآن: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]؛ لأن من حققها نهته.
فهذه المعاني يجب أن تفقه في القرآن، لأن القرآن يصدق بعضه بعضاً، والسنة كذلك، وكل حديث نطق به الرسول فهو على ظاهره، لكن يحتاج إلى قدر من التأمل والاعتبار، وأما فرض ظهور التعارض كثيراً في كلام الرسول كما هو دارج على ألسنة كثير من المتأخرين فلا.
والأصل في هذا: أن من أشكل عليه بعض الأحاديث فعليه الرجوع إلى المجتهدين فيسأل عنها، أما أن تصنف أحاديث كثيرة، ويقال: ظاهرها التعارض كأحاديث الوعد والوعيد.
فهذه من بدع المبتدعين، فالأحاديث ليس ظاهرها التعارض لا ظاهراً ولا باطناً، ولذلك تجد نوعاً من الأحاديث سماها أئمة السنة من المتقدمين: هذا ظاهره التعارض، نعم! قد تشكل على بعض المجتهدين، فيكون ظاهر الأحاديث عنده هو فقط، لكن أن تقرر للمسلمين أن أحاديث كذا وكذا ظاهرها التعارض، وأن كل مسلم يفترض أن يؤمن بهذه الحقيقة، هذا غير صحيح، الأصل أنه لا يوجد تعارض بين حديث وحديث أو آية وحديث، لكن من عرض له هذا التعارض فلا يجعل هذا سنة في الأحاديث.