الجهل يراد به أكثر من وجه، فأحياناً يكون الجهل عدم معرفة العلم الإدراكي، كشخص حديث عهد بالإسلام لا يعرف أن صيام عاشوراء مشروع، فهذا تسميه فوات علم الإدراك لا القبول.
وأحياناً يراد بالجهل في كتاب الله -وهو الغالب على مسائل الكفر والإيمان والمخالفة- فوات علم القبول، ألا ترى أن الله يقول: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} [النساء:17] فالسياق هنا من جهة بلاغة اللغة فيه قصر وحصر بـ: (إنما)، فالله قصر التوبة على من يعمل السوء بجهالة، ومفهوم هذا السياق أن من لم يعمل السوء بجهالة لا يتاب عليه، والمفهوم ليس له وجود.
لأنه لا يمكن أن يوجد شخص يعمل السوء إلا وهو يعمله بجهالة؛ خصوصاً إذا فسرنا الجهالة بفوات علم القبول، ولهذا قال أبو العالية: سألت أصحاب محمد عن هذه الآية فقالوا: [كل من عصى الله فهو جاهل]، أي: كل من ترك الائتمار بالعلم الذي عرفه فقد سمي جاهلاً؛ لأن العلم النظري له لوازم، وإذا عدم اللازم عدم الملزوم.
تقول مثلاً: العلم في تحريم السرقة له لازم شرعي وهو الكف عن السرقة، فإذا ما سرق وهو يقول: إني أعلم أن السرقة حرام ترك اللازم، وفوات اللازم يستلزم فوات الملزوم، ولهذا يصح أن يسمى جاهلاً، ولهذا فإن العلم في كلام الله يراد به تارة علم القبول، وتارة يراد به علم الإدراك والمعرفة واليقين كذلك، ولهذا لما قال الله عن اليهود: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة:146]، هذا علم إدراك.
وهنا قاعدة: كل علم أو معرفة أو يقين وصف به جنس من الكفار فيراد به علم الإدراك، وكل علم ذكر في القرآن أو السنة مضافاً إلى المؤمنين فهو علم القبول.
ولهذا جاء في صحيح مسلم وغيره عن عثمان أن النبي صلى الله عليه وسلم: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة) وهذا الحديث عام يخصصه حديث ابن مسعود: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) وحديث أبي أمامة الحارثي: (من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة)، فنحن إذا وضعنا هذه السياقات أمام سياق: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، هل يقال: الوعيد يراد به التغليظ وليس الحقيقة؟ أو يقال -كقول المتأخرين-: هذا له شروط، فإذا اجتمعت الشروط وانتفت الموانع حصل الوعد؟
الجواب: لا.
بل أحاديث الوعد على ظاهرها، وأحاديث الوعيد على ظاهرها، لكنها تحتاج إلى تأمل لطيف من جهة اللغة، ولهذا لم يقع هذا الإشكال لصحابي واحد؛ لأنهم كانوا يفقهون اللغة، ويدركون مراد صاحب الشريعة.
فقوله عليه الصلاة والسلام: (من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا الله دخل الجنة)، جملة (وهو يعلم) حالية ..
لكن قد يرد إشكال وهو أن صاحب الكبيرة قال الله فيه: (بِجَهَالَةٍ) إذاً: اجتمع له مقام من العلم ومقام من الجهل، فإذا كان بمعصيته جاهلاً يكون علمه ناقصاً؛ فإذا نقص علمه تأخر ثوابه بحسب النقص، وقد يعذب وقد لا يعذب، ولكنه يؤخر عن الجنة ..
إلخ.
إذاً ..
معنى الحديث أنه قد يعذب إذا ما قصر في العلم، لكن لا بد أن يعلم أنه لا يوجد في الشريعة من يحقق هذا العلم ثم يدخل النار، ومثل هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر) فإن معناه: لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر، لكن عندما يزول أثرها عن القلب إما بالتوبة، أو بحسنات ماحية، عندها يدخل الجنة.
يقول ابن تيمية: "لما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة) كان لفظه واضحاً ولا يحتاج إلى تأويل، أي: أنه إذا دخل الجنة لا يدخل وفي قلبه أثر ذنب من الذنوب التي سماها الشارع، وما زال الأثر إلا بسبب توبة، أو زال بحسنات ماحية، كما قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114]، أو زال بالشفاعة ..
إلى غير ذلك من المكفرات".