إذا قيل: إن في آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تردد العلماء من الصحابة والتابعين وغيرهم في فهم معناها على أقوال؛ فمنهم من فهم من الآية الوجوب، ومنهم من فهم من الآية الاستحباب، أو غير ذلك، فمثلاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي سعيد في الصحيح: (غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم) فهم طائفة من أهل العلم أن غسل الجمعة فرض عين، وأنه واجب لا بد منه، ويلحق الإثم بتركه، وفهم الجمهور -وهو الصحيح- أن غسل الجمعة ليس واجباً على التعيين، وأن كلمة (واجب) لا يراد بها الوجوب الاصطلاحي.
والقصد أن العلماء اختلفوا في فهم الأدلة، فما الجواب عن هذا.
يقال: الاختلاف الذي وقع بين علماء السلف في فهم بعض آيات القرآن وبعض أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم يرجع إلى ذات الكلام، بمعنى: أنهم يتفقون أن الكلام إنما يراد به معنىً واحد، فهم متفقون على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد من حديثه حكماً واحداً؛ إما الوجوب وإما الاستحباب، لكن اختلفوا في تعيين هذا الحكم؛ فالاختلاف يرجع إلى مادتهم الاجتهادية، ولكن باب الأخبار -والذي منه باب الأسماء والصفات- ليس كباب الأمر والنهي، فباب الأخبار لا يرد عليه ذلك؛ لأنه إما أن يثبت الشيء وإما أن ينفى، فقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:22] هذا إسناد صريح من جهة لغة العرب، ويمتنع أن يفهم أحد من لفظ المجيء إذا أضيف إلى معين أكثر من حقيقته الظاهرة؛ فإذا قال شخص -ولله المثل الأعلى-: جاء زيد، لم يتردد العقلاء في فهم هذه الجملة بأي لغة عبر بها، فهم يفهمون أن رجلاً يسمى زيداً قد جاء مجيئاًَ يختص به ويناسبه.
إذاً: تقسيم الكلام إلى ظاهر ومؤول غلط من أصله؛ فهم بنوه على وجه زعموا أنه من اللغة، وهو: أن اللغة تنقسم إلى حقيقة ومجاز، وهذه المسألة كثر فيها الجدل، ولكن يمكن أن يلخص فيها تقرير يسير فيقال: تقسيم الكلام في القرآن والسنة إلى حقيقة ومجاز يقع على أحد وجهين؛ فإن أريد به الوجه اللفظي الاصطلاحي فهذا لا مشاحة فيه؛ فمثلاً: قوله تعالى: {وَاسْأَلْ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82] من قال: إن هذا من باب المجاز في اللغة.
وأراد أن العرب تحذف المضاف وتقيم المضاف إليه مقامه، وأن هذا مما تجوزه اللغة، أو من مجازات لغتهم، وأن المراد أهل القرية، فهذه التسمية اصطلاحية.
إذاً: تقسيم الكلام إلى حقيقة ومجاز إن كان من عوارض الألفاظ؛ فهو اصطلاح لا بأس به.
وإن كان هذا التقسيم من عوارض المعاني، فهذا هو المشكل، وهو المستعمل عند اللغويين من المعتزلة، وشاع في كلام الأصوليين وغيرهم على معنىً قالوا فيه: الحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له، والمجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهذا تعريف للحقيقة والمجاز مشهور عندهم.