حكم تارك الصلاة

قال الموفق رحمه الله: [ولا نخرجه عن الإسلام بعمل].

هذه أيضاً جملة مجملة؛ فإن تارك الصلاة كافر عند جمهور من السلف، وكذلك تارك الزكاة المقر بوجوبها فيه نزاع، وتارك الصوم فيه نزاع، وتارك الحج فيه نزاع.

وابن قدامة رحمه الله يذهب إلى أن تارك الصلاة ليس كافراً، ومن باب أولى عنده تارك الزكاة وتارك الصوم وتارك الحج، فما دام أنه مقر بالوجوب فعنده لا يكفر أحد بترك الصلاة أو بترك الزكاة أو بترك الصوم أو بترك الحج.

وابن قدامة ممن يستدل بالإجماع على عدم كفر تارك الصلاة، وإذا قيل له: ما الإجماع؟

يقول: إن تارك الصلاة لو كان كافراً لما صلي عليه، ولما دفن في مقابر المسلمين، ولما ورث

وما إلى ذلك.

ولم ينقل أن واحداً من المسلمين تركت الصلاة عليه، أو لم يدفن في مقابر المسلمين، أو منع من التوارث بحجة أنه تارك للصلاة.

قال: فعدم إجراء أحكام الكفار عليه، دليل على أن أهل العلم كانوا يذهبون إلى عدم تكفيره، ولو كانوا يذهبون إلى تكفيره لأخذ بهذه الأحكام، ولو أخذ بهذه الأحكام لنقل؛ ومن هنا ظن رحمه الله أن المسألة فيها وجه من الإجماع على عدم كفره.

ومسألة تارك الصلاة هل فيها إجماع أو ليس فيها إجماع؟

نتناول هذه المسألة من عدة مسالك:

المسلك الأول: حكى إسحاق بن إبراهيم الحنظلي من الأئمة المتقدمين الإجماع على أن تارك الصلاة كافر، وأيوب السختياني يقول: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه.

وعبد الله بن شقيق يقول: كان أصحاب محمد لا يرون شيئاً من العمل تركه كفر إلا الصلاة.

هذا مسلك جماعة من السلف: أنهم كانوا يذهبون إلى تكفير تارك الصلاة، ويرون أن كفره إجماع.

المسلك الثاني: ذهب طائفة من السلف إلى كفر تارك الصلاة، ولكنهم لا يعتبرون كفره بالإجماع، وإنما بظواهر الأدلة.

المسلك الثالث: الذين لا يعتبرون كفره، وهؤلاء بنوا المسألة على فرعين:

الفرع الأول: منهم من بنى المسألة على عدم ظهور الدليل على كفره كـ مالك والشافعي والزهري.

الفرع الثاني: ومنهم من بنى عدم كفره على كون الصلاة عملاً، والعمل لا يكفر تاركه، فهذا لا شك أنه من أصول المرجئة، وقد كان يعلل بمثل ذلك -في عدم تكفير تارك الصلاة- حماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وأمثاله من فقهاء الكوفة المرجئة.

فإذا قيل لك: من لم يكفر تارك الصلاة هل قوله من أقوال المرجئة؟

الجواب: فيه تفصيل: إن بنى عدم تكفيره على أن الصلاة عمل ولا يكفر تارك العمل، فهذا من المرجئة.

وإن بنى ذلك على أن الدليل لم يظهر بكفره، ويقول صاحب هذا القول: إن العمل أصل في الإيمان، وداخل في مسماه، ولكنه لا يكفر بترك فريضة واحدة كالصلاة، فهذا ليس من أصول المرجئة ولا من طرقهم ولا من آثارهم، وقد كان مالك بن أنس رحمه الله والشافعي وقبلهم الزهري يذهبون إلى عدم كفر تارك الصلاة، ويبنونه على عدم ظهور الأدلة لا على أن الصلاة عمل، فإن مالكاً والزهري والشافعي من أشد الناس على المرجئة، ويرون العمل أصلاً في الإيمان.

فهذا وإن كان اجتهاداً مرجوحاً فإن الصواب الذي عليه الجمهور من السلف والمحققون من المتأخرين من أهل السنة كـ شيخ الإسلام أن تارك الصلاة كافر، وهذا هو ظاهر النصوص كحديث جابر بن عبد الله وبريدة وأمثالها، وهو ظاهر مذهب الصحابة في كلام عبد الله بن شقيق.

وعليه: فالأظهر أن حكاية الإجماع ليست منضبطة، فإن الزهري خالف وهو أعلم بأقوال الصحابة من إسحاق.

ثم إن كلام إسحاق بن إبراهيم رحمه الله فيه إشكال، فإنه قال في كلامه الذي رواه محمد بن نصر عنه وغيره: "أجمع أهل العلم من زمان رسول الله إلى زماننا هذا أن من ترك صلاةً واحدة حتى خرج وقتها أنه كافر" مع أن جمهور المكفرين لتارك الصلاة لا يكفرون بصلاة واحدة، ففي كلامه بعض الإشكال وقد يخرج هذا القول على أن إسحاق كان يرى الإباء، أي: من أبى قضاء الصلاة وامتنع، والممتنع كافر عند السلف بالإجماع، كمن دعي إلى الصلاة وقيل له: صل وإلا قتلت فقدم القتل على الصلاة فهذا يقتل مرتداً بإجماع السلف، ولا يكون ذلك إلا عن زندقة كما قال ذلك شيخ الإسلام.

فالمسألة محتملة، وكلام عبد الله بن شقيق الأظهر أنه إجماع سكوتي، والإجماع السكوتي حجة محتملة وليس حجةً قطعية؛ لأنك إن قلت: إن فيها إجماعاً قطعياً مثل إجماع السلف على أن الإيمان قول وعمل؛ لزم من ذلك أن مخالفة الزهري ومالك خروج عن الإجماع القطعي؛ لأن من خالف الإجماع القطعي فقوله بدعة ولا شك، ويجب الإنكار عليه

إلى غير ذلك.

وأما ما يقال: إن مالكاً أو الشافعي لم يثبت عنه ذلك، بل هذا من كلام الشافعية نسبةً إلى الشافعي، أو المالكية نسبةً إلى مالك.

فنقول: هذا ليس صحيحاً من وجهين:

الوجه الأول: أن المالكية تواردوا نسبة هذا القول إلى مالك، والشافعية تواردوا نسبة هذا القول إلى الشافعي، وإن كان من الشافعية وغيرهم كـ الطحاوي حكى عن الشافعي قولاً آخر لا بأس به.

فتوارد المالكية والشافعية في ذكر مذهب الشافعي ومالك يمتنع أن يكون غلطاً، والأصحاب قد يخطئون على الإمام إذا كانوا جماعات أو أفراداً، أما إذا أطبقوا فمن الممتنع أن يغلطوا على إمامهم.

الجهة الثانية: أن كبار المحققين المعروفين بضبط الفقه والخلاف، بل يعد عند العلماء من أضبط الناس لفقه السلف كـ محمد بن نصر المروزي ذكر الخلاف عن مالك والشافعي في عدم تكفير تارك الصلاة مع أنه ذكر إجماع إسحاق، فكان يقول: "من السلف من كان يرى هذه المسألة إجماعاً"، ثم ذكر كلام إسحاق وأيوب السختياني، وأثر عبد الله بن شقيق، ثم يقول: "ومن السلف من كان يراها خلافاً".

ثم ذكر رأي الزهري ومالك والشافعي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015