الإيمان بنصب الموازين يوم القيامة

قال الموفق رحمه الله: [وتنصب الموازين، وتنشر الدواوين].

هذا كله حق على ظاهره كما دلت على ذلك الأدلة من الكتاب والسنة، قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:102 - 103]، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [الأنبياء:47] وهذه الموازنة إذا ذكرت الموازنة على صيغة المقارنة فيراد بها الموازنة بين التوحيد والكفر، فقوله: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) أي: بالإيمان، (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) أي: بالشرك.

وما ذهب إليه ابن حزم رحمه الله وتبعه عليه ابن القيم في أهل الكبائر من المسلمين حين قالوا: إن أهل الكبائر من المسلمين ثلاثة أقسام: قوم فضلت -أي: زادت -حسناتهم على كبائرهم، قالوا: فهؤلاء لا يعذبون، ولا يمسهم شيء من الوعيد مع ما عندهم من الكبائر، بل يصيرون إلى الجنة ابتداءً.

- وقوم تساوت حسناتهم مع كبائرهم من سيئاتهم، فهؤلاء لا يعذبون ولكنهم لا يدخلون الجنة ابتداءً، بل يحبسون عن الجنة زمناً ثم يدخلون إياها.

- وقوم زادت كبائرهم وسيئاتهم على حسناتهم، فهؤلاء هم الذين يعذبون في النار قدراً ثم يدخلون الجنة.

ويعد ابن حزم أول من فصل هذا التفصيل ونسبه لأهل السنة، وجاء ابن القيم رحمه الله فزاد على ذلك ما هو أشد من التصريح، فقال في هذه المسألة: "ومسألة الموازنة لا يعرف الحق فيها كثير من الناس"، وقال: "بل كثير من المنتسبين للسنة لا يعرفون إلا قول المرجئة، وأما قول الصحابة والتابعين فإنهم لا يعرفونه، وهو: أن أهل الكبائر على ثلاثة أقسام".

ثم ذكر هذا التقسيم، فجعله ابن القيم رحمه الله قولاً للصحابة والتابعين، وجعل خلافه قول المرجئة.

وهذا كله لا أصل له، وإن كان تكلم به ابن القيم رحمه الله فهذا ليس صحيحاً، ولم يعرف في كلام أئمة السنة المتقدمين هذا التفصيل، وابن القيم رحمه الله إنما نقل هذا عن أبي محمد ابن حزم في كتاب (الفِصَلَ)، مع أن ابن حزم أخف في التعبير والجزم من ابن القيم، فـ ابن القيم في طريق الهجرتين زاد في التعبير، وجزم أنه مذهب جميع الصحابة

إلخ، وقد استدل ابن القيم بعموم قوله تعالى: (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ)، وقوله: (وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) وهذا ليس وجه في القياس صحيح، فإن المقصود بهذه الآيات الإيمان والكفر، وهذا صريح في سياقها، ولهذا قال: {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ} [المؤمنون:103 - 106]، فالسياق صريح في المؤمنين والكفار، فاستدلاله رحمه الله ليس في مقامه.

ثم استدل بأن طائفة من الصحابة كـ جابر بن عبد الله وابن مسعود قالوا في أهل الأعراف الذين ذكرهم الله في سورة الأعراف: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46]

إلخ، قال: إن أهل الأعراف هم من استوت حسناتهم مع سيئاتهم، وأنهم يحبسون عن الجنة.

أولاً: هذا ليس إجماعاً للصحابة، بل إن صح فهو تفسير لعدد من الصحابة قد لا يصلون إلى العشرة، وروي عن ابن عباس، واختلف قول ابن عباس في ذلك عن ابن مسعود.

ثانياً: أن هذا غير منضبط صحته عن الصحابة، ولهذا فإن ابن جرير رحمه الله منهجه في التفسير أنه إذا فسر الآيات وللصحابة قول؛ لا يعارضه، لكنه هنا لما ذكر قول ابن عباس وابن مسعود وجابر بن عبد الله ذكر أقوالاً ثمانية في الأعراف، وهذا مما يدلك على أن أهل الأعراف ليس فيهم إجماع: أنهم من تساوت حسناتهم مع سيئاتهم، بل السلف مختلفون فيهم.

وقال ابن جرير: "الصواب أن الله أعلم بشأنهم"، ولم يجزم بأنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم.

إذاً: هذا التفصيل من ابن القيم وابن حزم ليس صحيحاً، وقد دخل على ابن القيم رحمه الله قدر من كلام ابن حزم بعض المسائل، وهذه من أخصها.

ومن الذي يستطيع أن يجزم بأن من زادت سيئاته ولو بواحدة أنه يعذب في النار؟ لا يمكن لأحد أن يجزم به، وليس في كتاب الله ذكر ذلك، وإنما الذي في الكتاب وأجمع عليه السلف هو الإيمان بالموازنة، والإيمان بالشيء المجمل لا يستلزم العلم به مفصلاً، والموازنة مردها إلى عدل الله ورحمته وحكمته.

وقد وصف ابن تيمية رحمه الله القول الذي انتصر له ابن حزم وابن القيم فقال: "هذا قول طائفة من المنتسبين إلى السنة من أصحابنا وغيرهم".

وهذا تهوين منه لهذا القول، وأنه ليس من الأصول المجمع عليها عند الصحابة كما يقول ابن القيم رحمه الله.

إذاً ..

أن هذا قول غلط، والصواب التوقف، فيقال: الإيمان بالموازنة أصل، ولكن هذا مرده إلى عدل الله وحكمته ورحمته، والله سبحانه وتعالى هو الذي يحكم بين العباد، ولا يوصف بهذا الوصف المفصل، بل يقال على قول الله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} [الأنبياء:47] والقسط هنا صفة لهذه الموازنة، وهذا من لطيف اللغة.

أن القسط مفرد مذكر، والموصوف جمع، مع أن القاعدة أن الصفة تطابق الموصوف، لكن هذا الأسلوب هو السليم في اللغة، تقول: هذه المقالات الغلط، والجواب عن هذا أن النعت هنا مصدر، ولهذا قال ابن مالك:

ونعتوا بمصدر كثيرا ... فالتزموا الإفراد والتذكيرا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015