ويتفرع عن هذه المسألة أيضاً مسألة ثالثة، وهي: ما الضابط الشرعي لضمان تحصيل العلم على أصوله السليمة عما يعتري الإنسان أحياناً من التعالي والتعالم والغرور والإعجاب أو سوء الأدب أو الجهل بأدب العلم والعلماء، والأدب مع المشايخ ونحو ذلك، فما الذي يضمن لطالب العلم أن يأخذ بالضوابط الصحيحة السليمة لطلب العلم الشرعي.
أقول كما قال أهل العلم: إنه من الضروري لطالب العلم الذي يريد أن يأخذ العلم على أصوله السليمة أن يتلقاه عن أهله ولا يستقل بنفسه في طلب العلم، ولا يكتفي بأخذ العلم عن أقرانه ومن هم في سنه أو أكبر منه قليلاً فإن هذا يؤدي إلى كوارث لها نماذج في التاريخ قد لا يتسع الوقت لذكرها، أعني كوارث تؤدي إلى الأهواء وإلى النزاعات وإلى الصدام بين الأمة، وإلى الاستهانة بالعلم وأهله، وإلى خرق عصا الجماعة والطاعة بين المسلمين.
فمن هنا كان من الضروري لطالب العلم أن يكون طالب علم ينفع نفسه وينفع أمته وأن يطلب العلم على أهله كما جاء في الأثر وبعضهم رفعه حديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يحمل هذا العلم -وقيل: هذا الدين- من كل خلف عدوله) يعني: من كل عصر العدول فيه، والعدول هم الرجال الثقات العلماء المتبحرون.
ثم إذا تدرج الشخص واستوفى ما عند طلاب العلم الكبار انتقل إلى المشايخ الكبار، إذا لم يمكنه أن يدرس عليهم ابتداء، ومع ذلك فإن هذه المسألة محسومة في عصرنا بكثرة طلاب العلم والمشايخ بقدر يقيم الحجة على الآخرين ولا يعتذر أحد من الناس بأن يقول: لا أجد من أتعلم على يديه، بل كثير من الدروس تشكو النقص والقلة، وكثير من المشايخ لو وجد طلاب العلم لجلس لهم.
أما لماذا هذا؟ أولاً: لأنه سبيل المؤمنين وسبيل أهل العلم وأئمة السنة، والله عز وجل حذر من اتباع غير سبيل المؤمنين.
والأمر الثاني: كما أشير في النصوص إلى أن العلم يؤخذ عن العلماء، والعلماء هم ورثة الأنبياء.
والأمر الثالث: أن العلم ليس مجرد تحصيل وضبط في الذاكرة، إنما العلم أدب وسمت وهدي، وهذا لا يتم إلا بالقدوة الذي يؤخذ عنه العلم، ثم إنه ثبت أن من أعظم أسباب الانحراف في هذه الأمة والوقوع في الأهواء هو طلب العلم في معزل عن العلماء.
إن أخذ العلم عن غير أهله كالأصاغر أو أهل البدع والأهواء أو بأخذ العلم عن مجرد الكتب والوسائل خطأ، فكثير من رءوس الأهواء الذين نعرفهم في التاريخ، والذين أضلوا الأمة وأحدثوا الافتراق كلهم معروفون بجفاء العلماء، وبأخذ العلم عن غير أهله، أو بطريقة غير سليمة، وارجعوا إلى التاريخ تجدوها ابتداء من أصول الشيعة الرافضة والخوارج الذين هم أول فرق نشأت، فنجد أن الأشخاص الذين تبنوا هذا الاتجاه وصاروا رءوساً في هذه الفرق الأوائل ممن كانوا يستهينون بالصحابة وبعلم الصحابة، بل كانوا يقدحون في علماء الصحابة ويزعمون أنهم متدينون وأنهم على صلاح واستقامة.
بل ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الخوارج منهم بأنكم تحقرون صلاتكم عند صلاتهم وصيامكم عند صيامهم ومع ذلك ضلوا بسبب الإخلال بهذه المسألة، وهي أنهم تركوا فقه الصحابة واستهانوا به واعتدوا بأنفسهم بزعمهم أئمة بأخذهم على الكتاب والسنة دون تلقيه عن رجال فهلكوا، ثم كبار الشيعة كذلك كلهم يرجعون إلى السبئية.
أما القدرية الأوائل مثل معبد الجهني وغيلان الدمشقي فلم يعرف أنهم تلقوا عن العلماء بل كان عندهم شيء من الخروج عن سمت أهل العلم، ثم واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد ما ظهروا ببدعتهم إلا عندما اعتزلوا شيخ الأمة في ذلك الوقت وعالمها وهو الحسن البصري ثم الجهم بن صفوان وصفه العلماء بأنه ممن عرف بعدم تلقي العلم عن أهله وبعدم مجالسة العلماء فقد نقل الذهبي وغيره أن من أهم سماته أنه لم يجالس العلماء.
أقول: إن الوسائل التي هيأها الله عز وجل لنا في هذا الوقت وهي الأشرطة والكتب والنشرات والصحف وغيرها من الوسائل الأخرى لتعليم الشرع جيدة ومفيدة، لكن لا تخرج علماء، نعم تعلم الأمة دينها وتفقه الناس وتعلمهم الأساسيات والضروريات، وتساعد طالب العلم على أخذ العلم الشرعي، فهي رافد من الروافد، لكن أن تكون هي الأصل فهذه مزلة وخطورة نخشى على الأمة من عواقبها.
وقد بدأت بوادر طلب العلم على غير أصوله تظهر من خلال بعض النزعات والاتجاهات عند طائفة من شباب الأمة وإن كانت قليلة؛ لكن نخشى أن تزيد هذه الظاهرة بسبب هذا التوجه، وهو التنكب عن سبيل العلماء والاستهانة بهم وترك التلقي عنهم وهكذا يستقل الطالب بنفسه كي يتعالى ويغتر ويخرج كل بمذهب.
والمعروف من خلال التاريخ ومن خلال الواقع أن كل الذين تعلموا على غير العلماء لا يخضع بعضهم لبعض، بل كل واحد منهم يقول: أنا لها، ويخرج كل واحد بمذهب، وإذا التقوا في بعض الأصول فإنهم لا يخضع بعضهم لبعض كما حصل من أتباع الفرق، أتظنون أن الفرق على قلب رجل واحد؟ لا.
فالخوارج يجتمعون في أصلين أو ثلاثة أما بقية ال