قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين كالطوائف الأربع فليس بمذموم، فإن الاختلاف في الفروع رحمة، والمختلفون فيه محمودون في اختلافهم مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة واتفاقهم حجة قاطعة.
نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتن، ويحيينا على الإسلام والسنة، ويجعلنا ممن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحياة، ويحشرنا في زمرته بعد الممات برحمته وفضله آمين.
وهذا آخر المعتقد، والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد، وآله، وصحبه، وسلم تسليماً].
في هذا المقطع ختم المؤلف رحمه الله بخاتمة عظيمة وجيدة كعادة أهل العلم في اختيار الكلام المناسب لخواتيم أقوالهم وكتاباتهم ومؤلفاتهم.
قال: (وأما النسبة إلى إمام في فروع الدين)، يقصد الإمامة في الاجتهاديات، كإمامة الأئمة الأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، فإنها جائزة، بمعنى أن غير المجتهد من طلاب العلم والعامة له أن يقتدي بأي أصل من هذه الأصول التي عليها هذه الأئمة، أي أنا نجد في عصور السلف الأولى من يبرز من أهل العلم والاجتهاد ويكون قدوة في الدين، فيجوز لعامة المسلمين أن يقتدوا به ويهتدوا بهديه، ولا ضير في ذلك، بل هذا هو مقتضى المصلحة العامة للمسلمين، ولو أطعنا كل الناس في الاجتهاد واعتبرنا كل متابعة لإمام تقليداً لأوقعنا الناس في الهلكة، فيجتهد الأعرابي ويجتهد العامي الجلف ويجتهد الجاهل وقليل المدارك، ويجتهد من ليس بأهل الاجتهاد فتقع الأمة في خبط وخلط كما حصل من بعض الذين يدّعون أن كل الاتباع تقليد، وهذا في الحقيقة فتنة حدثت لطوائف من الناس بسبب هذه الشبهة، فزعموا أن أي اتباع لأي إمام أو لأي عالم إنما هو تقليد، وهذا غلط يخالف سبيل المؤمنين الذي عليه أئمة السلف، والله عز وجل أرشدنا إلى سؤال أهل الذكر ولاتباع سبيل المؤمنين، فكيف يتحقق ذلك بغير قدوة.
فإذاً: لا بد أن نوسع للمسلمين في اتباع من يرون من الأئمة المهديين الأحياء منهم والأموات، ومن الأموات من كان قدوة أكثر من غيره، فنجد مثلاً في عهد السلف هناك من كان ما يسمى في عصرنا هذا صاحب مدرسة فقهية أو علمية كالأئمة الأربعة والليث والأوزاعي وابن أبي ليلى وربيعة الرأي وسفيان الثوري وأئمة السلف الكبار الذين عندهم فقه فهؤلاء أئمة لهم اجتهادات في الفقه وتبعهم من تبعهم من عامة المسلمين ومن طلاب العلم.
إذاً فالاختلاف في الفروع رحمة من حيث إنه اجتهاد، وذلك أن الاختلاف على نوعين في الفروع: منه ما يكون عن تعصب وجدال ومراء ونحو ذلك، فهذا لا يجوز وإن كان من باب الاختلاف في الاجتهاديات.
ومنه ما يكون عن طلب للحق، فهذا الاختلاف سائغ، وفيه رحمة للأمة، واختلاف السلف كله من هذا النوع والمختلفون فيه محمودون، أي: مثابون على اجتهاداتهم في الأمور الاجتهادية، بعكس العقيدة، فالمخالف فيها فهو مفارق، أما الاجتهاديات فإن الخلاف فيها عن حسن نية كله أجر، وهو مما يطلب شرعاً، والمختلفون فيها مثابون في اجتهادهم، واختلافهم رحمة واسعة واتفاقهم حجة قاطعة.
ثم ذكر هذا الدعاء العظيم الذي يناسب هذا المقام، بعد ذكر العقيدة فقال: (نسأل الله أن يعصمنا من البدع والفتن).
البدع تشمل كل بدع الدين، والفتن فتن في الدين والدنيا، يشير بذلك إلى فتنة العقائد والمبتدعات وإلى فتنة الدنيا بالشهوات ونحوها، فإن هذا من الفتن التي ينبغي التعوذ والاعتصام بالله منها.
(ويحيينا على الإسلام والسنة).
وهذا ما ينبغي أن يدعو به طالب العلم في كل مقام يكون فيه ذكر للأهواء، فإن لكل مناسبة دعاء، فإنه إذا ذُكرت الأهواء والبدع ينبغي للمسلم أن يستشعر أولاً ضرورة اللجوء إلى الله عز وجل بأن يعصمه ويهديه، وثانياً أن يتعوذ بالله من الفتنة والضلالة، وثالثاً يعرف أنه عبد ضعيف لا منجى ولا ملجأ من الله له إلا إليه إذاً ينبغي أن يلجأ إلى الله.
ثم يحذر من الشماتة؛ لأن الإنسان قد يستهويه الكلام في هذه الأمور فيقع في التعيير واللمز لأناس ممن وقع في البدعة وليس من أهلها ونحو ذلك، فالشماتة غير الاستعاذة بالله من البدعة، لأن الشماتة أمر يتعلق بالاستهزاء والسخرية بأكثر مما ينبغي شرعاً.
إلى آخر ما قاله، وبهذا ينتهي هذا الكتاب.
ونسأل الله أن ينفعنا بما علمنا، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالنا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.