ثم قال: (ولا كيف) وهذه مرحلة ثالثة بعد الإيمان والتصديق، فالإيمان والتصديق يشملهما معنى التسليم.
قوله: (ولا كيف)، بمعنى لا نسأل عن الكيفية، بل لا نعتقد الكيفية، ولا نتصورها ولا نتخيلها، ولا أقصد أننا نطردها من الأذهان، فالذهن لا بد أن يتخيل أو يتصور عند سماع النص، فهذا أمر لا ينفك منه عاقل، بل لا تستطيع أن تفهم كلام الله إلا بالتخيل، لكن العبرة فيما بعد التخيل، فإن الأصل في هذه الخيالات أنها مقربات للحقيقة، وإلا فالحقيقة غير ما تتخيله.
مثلاً: سمعت عن نعيم الجنة، فلا بد أن تتخيل عن هذا الخبر خيال، وما تتخيله حق وحقيقة لكن ليس كما تتخيله من أمور الدنيا التي انطبعت في ذهنك، ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإن تشابهت الأسماء والأشكال فإنها لا تتشابه الحقائق والطعوم والكيفيات.
إذاً: فالمقصود بعدم الكيف ألا تعتقد الصورة التي تنقدح في ذهنك، أما أن تتصور فلا بد أن تتصور، لكن اعتقد أن هذه الصورة ليست هي الحقيقة.
وفي أسماء الله وصفاته عندما تسمع نصوصها في القرآن وفي الحديث فلا بد أن يمر في ذهنك صورة، فاجزم أن هذه الصورة ليست الحقيقة التي عليها اسم الله عز وجل ولا صفته ولا فعله؛ لأن الله ليس كمثله شيء، وأن حقيقة أسماء الله وأفعاله أعظم من أن نتخيلها أو نتصورها.
إذاً (لا كيف (بمعنى أنك لا تحدد الكيفية في ذهنك، ولا في اعتقادك، ولا بكلامك، ولا تعتقدها، ولا تتكلم بها، ثم لا يسأل أيضاً عن الكيفية، فلا ينبغي لأحد أن يسأل كيف، فإن سأل الجاهل أعلم بالضوابط الشرعية، أما إن سأل المتعنت فيؤدب فإن أمكن تعزيره عزر، وإلا فعلى الأقل يؤدب بالكلام فمن سأل عن كيفية أسماء الله وصفاته وأفعاله متعنتاً بعد بيان الحكم له ولا بد أن يؤدب، أما من سأل وهو جاهل فيعلم الأدب مع أسماء الله وصفاته وأفعاله، ويقال إن أفعال الله وأسماءه وصفاته تثبت بدون كيف لا بسؤال ولا بفعل ولا بتصور ولا بتوهم، ولا معنى، بمعنى ولا كيف فليس بينهما فرق، أي لا نكيف ولا نؤول فلا نكيف المعاني ولا نؤولها، وإلا فالمعنى العام لا بد أن نثبته، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) لا بد أن نثبت أن لها معنى، بمعنى أن الله ينزل كما يليق بجلاله، هذه حقيقة، فالمعنى أن الحقيقة تُثبت لكن الكيفية تُنفى.
ثم قال: (ولا نرد شيئاً منها)، أي لا نرد النصوص، ثم لا نرد معاني النصوص وحقائق النصوص، فلا نرد النصوص لمجرد أننا لا نعلقها كما فعلت المعتزلة والجهمية فالجهمية ردوا النصوص الصحيحة الصريحة رغم أنها متواترة، مثل حديث الرؤية وأن المؤمنين يرون ربهم في الجنة يوم القيامة، فقد روي عن أكثر من ثلاثين صحابياً بألفاظ مترادفة كلها تدل على المعنى الحقيقي كما يليق بجلال الله، لكن المعتزلة ردوها وقالوا: الصحابة بشر، ويعتريهم كذا وكذا، إلى آخره فردوا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم بدون أن يتحفظوا في الرد.