أهل البدعة والضلالة أيضاً عطلوا هذه الصفة العظيمة الجليلة وقالوا: لا يتصف الله بالعلو، قلنا: لم تنكرون علينا ذلك وقد قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]؟ قالوا: عندنا من الكتاب من الأثر والنظر ما يدل على أن العلو هنا ليس مقصوداً، قلنا: ما هو؟ قالوا: قال الله تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة:7] إلى آخر الآيات قال: {إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] فهذه دلالة على أنه معنا في كل مكان، وأن الله في كل مكان.
والدليل الثاني الذي استدلوا به قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، وقال تعالى في آية أخرى: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهذه دلالة على أن الله في كل مكان وليس بالعلو كما تقولون.
وهذا الكلام ليس محدثاً، هذا الكلام من قديم الأزل ونحن نعايشه الآن، وكثير ممن يقول بالعقيدة الصحيحة عنده هذه الشبهة، فمن الناس من يقول: إن الله في كل مكان كعقيدة الصوفية، ومنهم الجفري وغيره يقولون بذلك، وكذلك الأستاذ زغلول النجار قال ذلك، وفسر قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] بأنه تقريبي وأن الله في كل مكان، فصرح أن الله في كل مكان، أي: أنَّ العقيدة الفاسدة موجودة فلا بد من الرد عليها، فاعتقادهم في قوله تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4] أنه إن كنت في البيت فهو معك، وإن كنت في البحر فهو معك، وإن كنت في السماء فهو معك، وإن كنت في الأرض فهو معك؛ لأن الله قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد:4].
والرد على هذه الشبهة: أن القاعدة عند العلماء تقول: السياق والسباق واللحاق من المفسرات والمقيدات، ففي السابق أي: في أول الآية قال: (يعلم)، وفي اللاحق: أي: في آخر الآية ختمها بقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة:7] فالله سبحانه وتعالى ختمها بالعلم وابتدأها بالعلم فالسياق هنا ذكر أنه يعلم أولاً ويعلم آخراً، إذاً: هو معكم بهذا الذي ابتدأه وهذا الذي ختم به، أي: بعلمه، فالسياق يثبت لنا قرينة تجعلنا نقول: التقدير: (وهو معكم) أي: بعلمه أينما كنتم، والذي يعضد ذلك قول الله تعالى بالجزم {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ربنا الذي في السماء تقدست أسماؤك) فهو يقر ويعضد ذلك أنه يثبت جزماً دون تأويل أن الله في السماء.
ونحن نعلم أنَّ السباق واللحاق من المفسرات، وهي القرينة التي صرفت اللفظ عن ظاهره، فهو ابتدأ السياق بالعلم وختم الآية بالعلم، فدل ذلك على أنَّ قوله: (وهو معكم) أي: بعلمه، فلما ذكر العلم أولاً وختم بالعلم ثانياً وقال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] أي: رابعهم بعلمه، ويعلم ما هم عليه، والذي يعضد ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم أثبت جزماً دون احتمال أن الله فوق العرش، وأن الله في السماء، وهذا الجزم دون أي احتمال دل على أن الآية الأخرى ثبتت بالتأويل أنه بعلمه، وهو معكم بعلمه.
وكذلك: لغة العرب تحتمل ذلك، أقول: سرت ليلاً ومعي القمر، أو سرت مع القمر، فهل رأيتم أحداً معه القمر في يده يمشي ويسير بين الناس؟ فكل إنسان يسلم على أنَّ القمر ليس في يده، وإنما أسير ومعي القمر وهو في السماء، فالمعية معيتان: معية خلطة، ومعية مصاحبة، ومعية الخلطة منفية عن الله، ولا يقول بها إلا أهل الاتحاد والحلول، فقولهم: إن الله في كل مكان يسمى معية الخلطة، وهذا لا يجوز بحال من الأحوال أن يكون لله جل في علاه، والمعية الثانية: معية مصاحبة، ومعية المصاحبة كأن تقول: سرت والنيل، والواو هنا اسمها واو المعية أو واو المصاحبة، أي: سرت مع النيل، فهل النيل تجسد ومشى مع الرجل؟ لا، وكأن تقول: سرت والقمر، فالقمر لا ينزل من عليائه ولم يمش مع الرجل، بل التقدير: سرت مع القمر، أي: كنت في الأرض وهو معي، أينما أمشي أنظر فوقي فأجد القمر، كذلك كأن الله فوق عرشه يرى ما عليه عباده وهو معهم بعلمه، والذي يقرب لك هذا الأمر أن الكون كله في يد الله جل في علاه كحبة خردل في يد أحدنا، وهذا ليس ببعيد.
الله: اسم من أسماء الله يتضمن صفة الإلهية فقوله: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام:3] أي: هو المألوه في السماوات، وهو الله في الأرض، أي: المألوه في الأرض، والمألوه يعني: المعبود الذي تألهه القلوب، أي: تحبه القلوب وتعظمه، فهذا أول تفسير لهذه الآية: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] يعني: هو المألوه في السماوات، والمألوه في الأرض.
هذه بالنسبة للإلهية، ومن الممكن أن تفسر بالربوبية، فقوله: (هو الله في السماوات) أي: أمره في السماوات، وهو الله في الأرض أي: أمره في الأرض، والأوامر هذه من لوازم الرب: أنه السيد الآمر الناهي المطاع فيكون أمره في السماء وأمره في الأرض، كما ورد في بعض الآثار: الله في السماء، أي: أمره في السماء وأمره في الأرض، فهذه الآية تفسر أيضاً بالربوبية.
أيضاً من باب الرد عليهم: جاء في بعض القراءات أنهم يقفون وقفاً لازماً عند قوله تعالى: (وهو الله في السماوات) فلا تستمر في القراءة لزوماً ووجوباً ثم تكمل: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3] إذاً: لزوماً تقف عند قوله: (وهو الله في السماوات) فأثبتنا هنا أن الله في السماوات، ثمَّ نبدأ جملة جديدة فنقرأ: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3]، وهو وقف لازم في بعض القراءات السبع، فالوقف اللازم أن تقف عند قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ} [الأنعام:3]، ثم تبدأ جملة جديدة: {وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام:3].
وأما الرد على الآية الثانية: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف:84] فهو نفس الرد في تفسير قول الله تعالى: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام:3] بمعنى: أن المألوه في السماء هو المألوه في الأرض، وكذلك أن أمر الله في السماء وأمره في الأرض سبحانه.