المسألة الأخيرة التي تتعلق بمسألة السمعيات: وهي الكلام على مجيء ملك الموت.
معلوم أن ملك الموت يأتي كل إنسان، وأن الموت سيدور على كل إنسان، كما أن الرزق يدور على كل إنسان، انبثاقاً من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (نفخ في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أجلها ورزقها) فقرن الرزق والأجل، فكأس الموت سيدور، وهذه العبودية تسمى عبودية أرباب العقيدة السليمة وأصحاب التوحيد السديد الذين تعلموا الربوبية والإلهية والأسماء والصفات، وتسمى هذه العبودية بالعبودية الخاصة، ومعلوم أنا كنا قد قسمنا العبودية إلى قسمين: عبودية عامة، وعبودية خاصة، فالعبودية العامة: هي عبودية المؤمن والكافر، فكل منهما يعبد هذه العبادة فهما مستويان فيها؛ لأن العبودية العامة هي عبودية القهر، وعبودية الإصابة بالبليات فلا يستطيع أحد أن يرد على الله أمره، فلو قضى الله بموت أحد فلا يستطيع أن يقول: لا، أنا لن أموت هذا اليوم، سواء كان كافراً جَلْدَاً أو مؤمناً؛ ولذلك قال الله تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93] أي: الكل عبد بالربوبية لا عبد بالإلهية، فعبودية القهر هي العبودية العامة، فالكل خاضع لعبودية القهر، وكل إنسان لا يمكن أن يرد على الله جل في علاه أمره في الموت.
ومعلوم أن ملك الموت يأتي الأنبياء فيخيرهم بين الحياة وبين الموت، فقد خطب النبي صلى الله عليه وسلم خطبة بليغة قال فيها: (خير عبد بين الدنيا والآخرة، فبكى أبو بكر وقال: فداك أبي وأمي، فقالوا: لم يبكي أبو بكر وهو رجل خير بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة؟ -أي: اختار ما عند الله جل في علاه- فلما علموا من المخير قالوا: كان أبو بكر أفقهنا؛ لأنه علم أن هذا دنو أجل النبي صلى الله عليه وسلم) فما من نبي إلا ويأتيه ملك الموت فيخيره بين الدنيا والآخرة، وكان يأتي على صورة ملك، وتارة يأتي على صورة بشر، وهذه خصيصة للملك وللجان، فالله جل في علاه أعطى الملك قدرة على أن يتشكل ويتصور بصورة الإنسان، ودليل ذلك ما جاء في الحديث الذي يرويه أبو حفص عمر بن الخطاب حيث قال: (دخل علينا رجل شديد سواد الشعر، شديد بياض الثياب، لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد، فجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: يا عمر ائتني به، فلما لم يجده قال: هذا جبريل جاء يعلمكم أمر دينكم) فهذا فيه دلالة على أن الملك يتمثل بالبشر، وفي صريح السنة في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشد ما يكون علي الوحي حين يأتي كصلصلة الجرس، ويأتيني بصورة الرجل فأعقل عنه ما يقول) وكان دائماً ما يأتي بصورة دحية الكلبي؛ ولذلك جاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بلأمة الحرب على عائشة، فنظرت عائشة فوجدت دحية الكلبي يأخذ بعنان الفرس، فقالت: يا رسول الله! هذا دحية ينتظرك، فقال لها: يا عائش! أرأيتيه؟ قالت: نعم رأيته، قال: يا عائش! هذا جبريل ويقرئك السلام، فقالت: الله ورسوله أعلم، أقرئ جبريل السلام).
فهذا دليل على أن جبريل جاء في صورة بشر، كذلك يقول تعالى: {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا} [مريم:17] فجبريل عليه السلام جاء مريم في صورة بشر، كذلك جاء ملك الموت ودخل على موسى عليه السلام متمثلاً في صورة البشر، فلما دخل على موسى نظر إليه فوجده غريباً في بيته، وظنه معتدياً، وموسى يخشى على حريمه وعلى نفسه، ولم يعلم موسى أنه جاء ليقبض روحه، أليس من جانب الشرع أنه إذا جاء رجل يريد قتلك أن تدفعه بالأهون ثم الأهون؟ وموسى عليه السلام قد دفعه بالأهون وفقأ عينه، وكان هذا هو الأهون، وموسى عليه السلام كان له قوة أربعين رجلاً، فقد قيل: إن البئر التي نزع عنها الغطاء وسقى للمرأتين كان لا يمكن أن يحرك غطاءها إلا أربعون رجلاً ولو كانوا أقل من ذلك فلن يستطيعوا تحريكه.
وموسى عليه السلام لما استغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه ماذا فعل؟ لقد صور القرآن هذه الحادثة قال تعالى: {فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ} [القصص:15] أي: دفعه دفعاً هيناً فمات.
فموسى عليه السلام نظر إلى هذا الغريب يدخل إلى بيته وعنده أهله فخشي عليهم وعلى نفسه فلطمه، وما أراد قتله بل لطمه ففقأ عينه، فرجع الملك إلى ربه فقال: إنك بعثتني إلى رجل لا يريد الموت، وكأنه ظن أن موسى لا يريد الموت، وهذا حد علم الملك؛ ولذلك الله جل وعلا بين له أن موسى يريد لقاءه، فقال للملك: قل له: يقول الله لك: ضع يدك على متن ثور ولك بكل شعرة تمسها يدك سنة حياة، فقال موسى: ثم ما يكون بعد؟ قال: الموت، قال: إذاً الآن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم الرفيق الأعلى) فقبض روحه.