إن كل شيء يقع فهو تحت إرادة الله جل في علاه.
فالزنا، والسرقة، والفواحش، والبذاءة كلها مرادة لله، لكنها مرادة إرادة كونية، وما أراده الله كان، وما لم يرده لم يكن، (ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن)، وقال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40].
وهناك آية ظاهرها مشكل وهي قول الله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1]، وذلك لأن (أتى) فعل ماض، والفعل (تستعجلوه) فعل مضارع، فكيف نوفق بين أول الآية وآخرها؟
صلى الله عليه وسلم أن الفعل (أتى) بمعنى: أن الله إذا أراد شيئاً فسيقع لا محالة، فلا مرد لقضاء الله ولا لإرادته جل في علاه، فكأن الله يخبرنا بأنه وإن لم يأت حتى الآن، لكن إذا أراده الله فكأنه قد وقع لتحقق وقوعه؛ لأن الله قضاه وإذا قضى الله أمراً كان وقوعه محتماً.
والمراد: أن المؤمن لابد أن يعلم أن الإرادة إرادتان: إرادة كونية، وإرادة شرعية، أما الإرادة الكونية فهي المشيئة، وأما الإرادة الشرعية فهي المحبة وبينهما تفاوت، وهذا مما يجعل طالب العلم عند تعلمه مسائل القدر لا يتشوش باله ويوسوس لجهله بالفرق بين الإرادتين.
وضابط الإرادة الكونية أنها تقع لا محالة، فما أراده الله كوناً فلا يمكن أن يرد وضابط آخر للإرادة الكونية وهو أنها تقع فيما يحبه الله وما لا يحبه الله، فالله جل في علاه أراد وجود الشيطان ووسوسة الشيطان لابن آدم، وهذه الإرادة كونية؛ لأنها وقعت، ولأنها فيما لا يحبه الله.
وقال الله تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ} [الأنعام:125]، والإرادة هنا كونية؛ لأن الإضلال غير محبوب لله، ولأن الله لما أراد إضلال فرعون ضل لا محالة.
أما الإرادة الشرعية وهي المحبة فضابطها أنها قد تقع وقد لا تقع وهي محصورة فيما يحبه الله فقط، فلا يمكن أن تكون فيما يبغضه الله، إذاً: وجود إبليس أراده الله إرادة كونية وليس إرادة شرعية، وكذلك الزنا والسرقة وسب الوالدين.
وكذلك الإذن قد يكون إذناً كونياً وقد يكون إذناً شرعياً، وكذلك القضاء قد يكون قضاء كونياً وقد يكون قضاء شرعياً، وأيضاً البغض منه ما هو كوني وما هو شرعي.
قال الله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ} [فصلت:12]، فهذا القضاء قضاء كوني؛ لأن السماوات موجودة لا محالة.
وقال الله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ} [الأعراف:167] والإذن هنا إذن كوني؛ لأنه وقع حقيقة، فقد بعث الله عليهم من سامهم سوء العذاب، وهو بختنصر ووقع فيما لا يحبه الله؛ ولكن قدره لحكمة أرادها، وهي رد الظالم عن ظلمه.
قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، والقضاء هنا قضاء شرعي، لأنه قد يقع وقد لا يقع، فقد يوجد من يعبد الله، وقد يوجد من يعبد غير الله.
قال الله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء:16]، والإرادة في هذه الآية إرادة كونية.