القرآن كلام الله لفظه ومعناه

قال رحمه الله تعالى: (وقال تعالى: {كهيعص} [مريم:1] {حم * عسق} [الشورى:1-2] وافتتح تسعاً وعشرين سورة بالحروف المقطعة) .

أراد المؤلف رحمه الله بهذا أن القرآن حروف ومعان، وأن الحروف كلام الله، وأن المعاني كلام الله، لا أن الحروف كلام الله دون المعاني، ولا أن المعاني كلام الله دون الحروف، بل القرآن حروفه ومعانيه كلام الله تعالى، وهذا الذي أجمع عليه سلف الأمة، وهو يرد بهذا على من قال: إن القرآن كلام الله من حيث المعنى، أما الحروف فإنها ليست كلام الله كما هو قول الكلابية والأشعرية، وأول من قال إن المعاني هي كلام الله دون الحروف هو عبد الله بن سعيد بن كلاب، وهو أول من أظهر هذا القول في الإسلام، ثم تبعه عليه أبو الحسن الأشعري، ثم قال به كثير من الناس ممن يتبع هذين بعد ذلك، والذي عليه سلف الأمة ودل عليه الكتاب والسنة: أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، فليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الألفاظ، بل الحروف والمعاني هي كلام الله جل وعلا.

أما هذه الحروف المقطعة التي افتتح الله بها بعض السور، فقد اختلف العلماء رحمهم الله في تفسيرها على أقوال كثيرة نجملها في ثلاثة: القول الأول: أنه لا معنى لها مطلقاً، وليس لها معنى في ذاتها، وهذا القول قول مجاهد بن جبر إمام التفسير، وقد أخذ تفسيره عن ابن عباس وغيره من الصحابة، لكنه ممن اختص بـ ابن عباس رضي الله عنه.

هذا القول استدل له بأن الله عز وجل وصف القرآن بأنه كتاب عربي مبين، وأنه أنزله بلسان عربي مبين، والعرب لا تعرف لهذه الحروف المقطعة معاني؛ هذا القول الأول.

القول الثاني: أن هذه الحروف لها معانٍ، وانقسم هؤلاء إلى قسمين، قسم قالوا: لها معنى الله أعلم به، ولا ندرك نحن معناها، والقسم الثاني قالوا أقوالاً في بيان معانيها، فمنهم من قال: إنها أسماء للسور، ومنهم من قال: إنها أسماء للرسول، ومنهم من قال: إنها أسماء من أسماء الله عز وجل، ومنهم من قال: إنها تعبر عن عمر هذه الأمة، وقيل غير ذلك.

القول الثالث: التوقف، ومعنى التوقف: أنهم لا يجزمون بأحد القولين، لا يقولون: إن لها معنى، ولا يقولون: ليس لها معنى، بل يتوقفون.

هذه ثلاثة أقوال لأهل العلم في الحروف المقطعة التي افتتح الله بها بعض سور القرآن، والراجح من هذه الأقوال الثلاثة هو القول الأول، وهو: أن ليس لها معنى مطلقاً.

وإذا كان ليس لها معنى، فهل منها فائدة؟

صلى الله عليه وسلم نعم، منها فائدة، وفائدتها بيان إعجاز القرآن، وذلك الملاحظ في جميع موارد هذه الأحرف: أنه يأتي بعدها ذكر القرآن تعظيماً وامتناناً، ولم ينخرم هذا الاطراد إلا في موضعين فقط من جميع المواطن، حيث كانت هذه الأحرف معقبة متلوة بذكر القرآن: {الم * تَنزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [السجدة:1-2] {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1-2] {حم * تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت:1-2] وما أشبه ذلك من المواطن التي تذكر فيها هذه الحروف، ثم بعد ذلك يشيد الله جل وعلا بالقرآن الكريم، ولم ينخرم هذا إلا في سورة الروم: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:1-3] .

وأيضاً في العنكبوت {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:1-2] .

لكن إذا تأملت في هذه السور التي لم يأت فيها ذكر القرآن صريحاً تجد أنه ذكر فيها ما لا يتلقى إلا من القرآن، فمثلاً قال تعالى في سورة الروم: {الم * غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ} [الروم:1-3] ، هذا خبر عن واقع، وهو ما حدث من ظهور فارس على الروم: {غُلِبَتْ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:2-3] ، وهذا لا يتلقى من غير القرآن، فلذلك تجد أنه ما لم يذكر فيه القرآن صريحاً في المواضع التي ذكرت هذه الحروف المقطعة ذكر فيها شيء يتعلق بالقرآن، أو لا يمكن ألا يتوصل وألا يحصل إلا من القرآن، فعادت كسائر المواضع أنها بيان للإعجاز.

ووجه الإعجاز في هذه الأحرف: أنها من كلام العرب الذي يتكون من هذه الكلمات، ومع ذلك عجزوا عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بسورة من مثله.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015