ثم ذكر رحمه الله قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وهذا فيه إثبات اليدين لله عز وجل.
واليدان صفة للرب جل وعلا دل عليها الكتاب والسنة وأجمع عليها سلف الأمة، وهما يدان اثنتان كما دل عليه قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وقد جاء ذكر هذه الصفة في القرآن بعدة صيغ، وعلى عدة أوجه، فجاءت مفردة، وجاءت مثناة، وجاءت مجموعة، جاءت مفردة في قوله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] وجاءت مثناة في قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ، وجاءت مجموعة في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس:71] .
أما الآية التي في سورة الذاريات وهي: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ} [الذاريات:47] فالأيد هنا ليست جمع يد، وإنما الأيد هنا القوة من (أيد) إذا قوي.
ثم قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس:71] فيه جمع اليد، فهل يوجد تعارض بين الإفراد والجمع والتثنية؟
صلى الله عليه وسلم لا تعارض، والدليل على أنه لا تعارض قول الله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فلا يمكن أن يكون في كلام الله عز وجل تعارض أو تضارب، والتعارض والتضارب الذي يرد في النصوص إنما هو من قبل الناظر لا من قبل النص، فالنص ليس فيه تعارض، بل هو محكم كما قال الله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ، وكما قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] (حكيم) أي: محكِم، فقد أحكم الله جل وعلا هذا الكتاب، وهو محمود عليه سبحانه وتعالى لأنه أحكمه وأتقنه، ولذلك قال: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] إذاً: لا تعارض بين الإفراد والتثنية، وبين الإفراد والجمع، فهل نقول: لله يد أم يدان أم أيد؟ الجواب: إن لله يدين لا أكثر؛ لأن الله جل وعلا ذكر صفة اليد مثناة، والتثنية هي من أسماء الأعداد، وأسماء الأعداد لا يراد بها إلا العدد المذكور، فإذا قال قائل: جاء خمسة، لم يمكن أن نقول: جاء ستة في اللسان العربي، وإذا قال قائل: أعطيته عشرة، لم يمكن أن يقال: لا هو يريد تسعة، أو يريد أحد عشر؛ لأن أسماء الأعداد نصوص لا تقبل الزيادة ولا النقص.
وهل يتعارض التثنية والجمع؟ الجواب: لا تعارض؛ لأن الإفراد جاء ويراد به الجنس، هذا احتمال، الاحتمال الثاني: أن يراد به مطلق اليد ثم جاءت النصوص مبينة لليد، كما قال الله تعالى: {وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] (يد الله) مفردة أضافها إلى نفسه، ومعلوم من قواعد اللغة أن المفرد المضاف يفيد العموم، فيصدق عليه اليد واليدان والثلاث والعشر، إذاً: الإفراد لا يعارض التثنية ولا يعارض الجمع، ولماذا لا يعارض التثنية ولا الجمع؟ الجواب: لأن الإفراد يراد به الجنس، أي: إثبات جنس اليد لله سبحانه وتعالى دون تعرض للعدد، ويراد به أيضاً العموم حيث إنه مفرد مضاف، والمفرد المضاف يصدق عليه الواحد وما هو أكثر من الواحد، فتبين أن: الإفراد لا يعارض التثنية، ولا يعارض الجمع.
وهل الجمع يعارض الإفراد والتثنية؟ الجواب: لا يعارضهما؛ لأن الجمع يأتي للتعظيم، كقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] مع أن المنزل هو الله جل وعلا، فالقرآن نزل من عنده جل وعلا، قال سبحانه: {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] ، وقال: {كِتَاب أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] فهو الذي فصل وهو الذي أحكم جل وعلا، ومع ذلك أخبر عن المنزل بصيغة الجمع، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] فالإتيان بصيغة الجمع فائدته التعظيم.
إذاً: تلخص لنا من هذا أن ما جاء في القرآن في صفة اليد مثنىً لا يعارض الإفراد ولا الجمع، ولا الإفراد يعارض الجمع والتثنية، وكذلك الجمع لا يعارض الإفراد ولا التثنية.