يقول رحمه الله: (وتنصب الموازين) ، أي: تقام كما قال الله عز وجل: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:47] ، فالله عز وجل يضع الموازين.
وقول المؤلف: (الموازين) ، يظهر منه أن الوزن ليس بميزان واحد بل بموازين متعددة، لقوله تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ} ، أي: الموازين العدل التي لا تحيف ولا تضل، فلا يهضم صاحب الطاعة شيئاً ولا يبخس شيئاً، ولا يحمل صاحب السيئات شيئاً من السيئات لم يعمله، بل هي موازين قسط.
والميزان معروف في كلام العرب، وهو ما يوزن به الشيء، والوزن للأعمال هو الأصل، كما قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم) .
ولا تقل: كيف يوزن العمل؟ فيوم القيامة شأنه مختلف عن شأن الدنيا؛ فإن الأعمال يكون لها وزن عند الله عز وجل يزنها بها سبحانه وتعالى، فنحن نؤمن بالميزان، لكن لا ندرك كيفية الوزن؛ لأن حقائق ما أخبر الله به مما يكون في الآخرة أمر لا تتصوره العقول بل نؤمن بما أخبر الله به ورسوله على مراد الله وعلى مراد رسوله دون أن نلج وأن ندخل في طلب الكيفيات والحقائق لتلك الأخبار.
إذاً: ذكرنا أن الأصل في الوزن أن يكون للأعمال، ولكن هل يوزن غير الأعمال؟ نعم يوزن العمال وتوزن الصحائف، كما في حديث عبد الله بن مسعود في مسند الإمام أحمد، حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم لما ضحك الصحابة من دقة ساقي عبد الله: (أتضحكون من دقة ساقيه! فوالله إنهما لفي الميزان أثقل من جبل أحد) ، وفي صحيح الإمام مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالرجل الكافر العظيم -العظيم الوزن والجرم- فلا يزن عند الله جناح بعوضة) ، فهذا يدل على أن الوزن يكون للعمال كما يكون للأعمال، لكن هل هذا عام في الجميع، الله أعلم؟ والذي نوقن بأنه عام وللجميع هو وزن الأعمال.
كذلك توزن السجلات، والسجلات هي دواوين العمل التي يسجل فيها ما يكون من الإنسان، ودليل ذلك: ما رواه الإمام الترمذي في جامعه والحاكم في مستدركه، من حديث عبد الله بن عمرو بسند جيد قال: (يؤتى برجل يوم القيامة ويؤتى معه بتسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر، فتوضع في كفة من السيئات، ويؤتى ببطاقة فتوضع في الكفة الأخرى فتطيش تلك السجلات) ، وهذه البطاقة فيها لا إله إلا الله، فدل هذا على وزن سجلات الأعمال.
فقوله رحمه الله: (وتنصب الموازين) ، المقصود فيه الموازين التي توزن بها الأعمال والعمال وسجلات العمل، وهذا كله في حق أهل الإيمان، أما الكفار فليس لهم حسنات توزن، بل كل ما قدموه من حسنات يذهب هباء منثوراً، وهل هذا ظلم؟
صلى الله عليه وسلم لا، تعالى الله عن أن يظلم أحداً: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً) ، هذا لكونهم جوزوا وكوفئوا على هذه الأعمال في الدنيا، والله لا يظلم الناس شيئاً؛ فيقدمون يوم القيامة ليس لهم عمل.