قال رحمه الله: (حتى يشفع فيهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم) .
فإنهم يقفون مدة طويلة، وهذه المدة ليست مدة لهو وابتهاج ونظر؛ إنما هي مدة عظيمة طويلة يطولها الله على أهل المعصية والكفر، ويقصرها جل وعلا ويخففها على أهل الإيمان والتقى والصلاح الذين قال الله فيهم: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] ، اللهم اجعلنا منهم! يقول النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم من حديث المقداد بن الأسود: (تدنو الشمس يوم القيامة من رءوس الخلائق.
قدر ميل أو ميلين، فيكون الناس في عرقهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يأخذه العرق إلى عقبيه، ومنهم من يأخذه العرق إلى حقويه - يعني إلى منتصف جسمه - ومنهم من يأخذه العرق إلى ثدييه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً) ، هكذا يتفاوت الناس في شدة ذلك اليوم بسبب صهر الشمس لهم بقدر ما كان من أعمال لهم في هذه الدنيا قف الآن في الشمس وانظر مدى أثرها عليك، وهل تطيق ذلك أو لا؟ فما ظنك بهذه الشمس عندما تدنو من رءوس الخلائق قدر ميل أو ميلين، والميل إما أن يكون ميل المكحلة، وهو الجزء الذي يدخل في أداة الاكتحال، وإما أن يكون المسافة المعروفة، وكلاهما قريب.
يقف الناس في ذلك الموقف العصيب الشديد، ثم يضيقون لطول الموقف وشدته، فيطلبون فكاكاً من ذلك الموقف، ويطلبون شفاعة سادات الخلق وهم الرسل الكرام، فيبدءون بآدم أبي البشر، فيأتون إليه ويقولون له: يا آدم! أنت الذي خلقك الله بيده، وأسجد لك ملائكته، فاشفع لنا، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! يعنون: من الشدة والكرب، فيقول: لست لها، اذهبوا إلى نوح، فيذهبون إلى نوح فيعتذر ويحولهم إلى إبراهيم، فيعتذر إبراهيم ويحولهم إلى موسى، فيعتذر موسى ويحولهم إلى عيسى وهكذا أربعة من أولي العزم من الرسل خامسهم آدم عليه السلام، فيحولهم عيسى عليه السلام إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
فيأتون إليه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في ذلك الموقف الشديد العظيم فيقولون: ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى إلى ما قد بلغنا؟! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا لها، أنا لها) ، فيقوم صلى الله عليه وسلم ويخر لله عز وجل ساجداً، فيقال له: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) فيشفع النبي صلى الله عليه وسلم في فصل القضاء، أي: أن يأتي الله جل وعلا لفصل القضاء بين الخلائق، وهذه هي الشفاعة العظمى التي اختص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المقام المحمود الذي يحمده عليه الناس كلهم مسلمهم وكافرهم.
وهذه الشفاعة لجميع الخلق مسلمهم وكافرهم؛ لأن الموقف موقف عظيم يضيق بالناس، سواء المسلم منهم والكافر، ولذا فإن هذه الشفاعة فيها نوع شفاعة للكفار، لكنها لا تنفعهم في الحقيقة، إذ إن ما يقبلون عليه وما يقدمون إليه أعظم مما خلفوا، فهو يشفع فيهم ليتخلصوا من شدة وكرب الموقف وينتقلوا إلى النار؛ نعوذ بالله من الخذلان والكفران، وهناك يكون الأمر أشد وأعظم.
وهذه الشفاعة مشار إليها أيضاً عند أنواع الشفاعة، وهي الشفاعة العظمى والمقام المحمود الذي يحمد فيه النبي صلى الله عليه وسلم كل الخلائق.