ثم اعلم أن من المسائل التي يكثر الكلام فيها مسألة دخول جنس العمل في مسمى الإيمان، يعني: إذا لم يعمل الإنسان شيئاً بالكلية وإنما قال بلسانه: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، وأقر بقلبه بالألوهية لله، وبالرسالة لمحمد صلى الله عليه وسلم، فهل يكفي هذا في الإسلام وتحقق الإيمان؟
صلى الله عليه وسلم لا يكفي، وقد خالف في هذا مرجئة الفقهاء، وتبعهم بعض من تبعهم ممن ينتسب إلى السلف وقال: إن هذا هو اعتقاد السلف، وهذا غلط وخطأ وجناية على السلف فيما قالوا، فليس في كلام السلف شيء يدل على ما ذكر من أن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، بل كلامهم واضح وجلي في خلاف هذا وأن العمل من الإيمان.
وقول من يقول: إن تخلف جنس العمل لا يؤثر قول محدث تكذبه الأدلة من الكتاب والسنة، ويكذبه ما نقل عن سلف الأمة من أن الإيمان قول باللسان، وعقد بالجنان، وعمل بالأركان.
ومن قال هذا القول إنما تأثر بقول من قال من مرجئة الفقهاء: إن العمل ليس من الإيمان، ولا فرق بين هذا وذاك في الحقيقة، وإذا تأمل الإنسان لم يجد فرقاً بين من يخرج جنس العمل عن مسمى الإيمان وبين من يقول: إن الإيمان قول باللسان، وإقرار بالقلب كما هو قول مرجئة الفقهاء.
والمشكلة أن الذين يقولون بهذا القول إنما قالوا به نتيجة الفرار من التكفير في بعض الأعمال، وهذا هو منشأ قولهم، فمنشأ قول مرجئة الفقهاء إنما كان ردة فعل للخوارج الذين كانوا يكفرون الأئمة ويكفرون المسلمين بكبائر الذنوب.
ولما كان الإيمان عندهم أصلاً واحداً أشكل عليهم ما يقوله الخوارج من أنه إذا كان الإيمان شيئاً واحداً فإما أن يثبت جميعاً أو أن ينتفي جميعاً؛ فقال مرجئة الفقهاء: إن الإيمان شيء واحد إما أن يثبت جميعاً وإما أن ينتفي جميعاً وليس منه العمل، فأخرجوا العمل حتى يسلم لهم بقاء الإيمان فيما إذا خالف الإنسان بسرقة أو زنا أو شرب خمر أو بغير ذلك من الأعمال المحرمة التي نفى الله ورسوله الإيمان عن فاعلها، فكان أول قولهم ردة فعل ثم تكوَّن بعد ذلك هذا المذهب، وهو مذهب المرجئة.
وأما من ينصر هذا وينسبه إلى السلف من المتأخرين، فكذلك تكرر الأمر، فهناك -مثلاً- من يكفر بترك الصلاة، ومن يكفر بالحكم بغير ما أنزل الله، فلما رأى هؤلاء أن التكفير بهذه المسائل خلافي وسعوا الخلاف وجعلوا المسألة لا تتعلق بهذين العملين وبالتكفير فيهما أو بأشباههما، وإنما قالوا: لا نكفر بالعمل إلا باستحلال أو بانتفاء عقد جنان، أو بترك القول بالشهادة، فوقع فيما وقعوا فيه سلفهم من مرجئة الفقهاء.
فالواجب على المؤمن أن يتحرى في عقيدته ما دل عليه الكتاب والسنة، وما كان عليه سلف الأمة، وألا يكون عقده ودينه عرضة لردود الأفعال، فإن من كان كذلك يوشك أن يرد الباطل بالباطل، والواجب على المؤمن أن يرد الباطل بالحق لا أن يرده بباطل مثله، فإنه لا ينفع نفسه ولا يرد الشر عن المسلمين برد الباطل بالباطل، وهذه مسألة قد ألفت فيها مؤلفات، وكتب فيها كتب وكتيبات، وإنما أحببنا أن نشير إلى بعض ما في هذه المسألة، ومن طلب المزيد فليرجع إلى ما ذكره العلماء في ذلك.