ثم ذكر المؤلِّف -رحمه الله- بأن أصحاب هذا القول منهم من يطلق لفظ «النسخ» ويقول بأن هذه الأحاديث منسوخة، يعني أنه نسختها نصوص الفرائض والحدود، والوعيد على الذنوب.
وهذا القول يُرَدُّ عليه بأن هذه الأحاديث أخبار، والأخبار لا يَرِدُ عليها النسخ.
ولكن الأئمة المتقدِّمين -كالثوري مثلاً-، وهو ممن روي عنه أنه أطلق القول بالنسخ، وينبغي أن يوجَّه كلامُه إلى ما ذَكَرَه المؤلِّفُ من أنَّ «النَّسْخ» في عُرْفِ كثيرٍ من السلف يطلق ويراد به البيان والإيضاح، فيطلقون «النَّسْخ» على تقييد المطلق وتخصيص العام، فيقولون: هذا ناسخٌ، يعني مخَصِّصٌ، أو هذا ناسخٌ، يعني مُقَيِّدٌ، ويقولون: هذا منسوخٌ، ويريدون به العام المخصوص أو المطلق الذي ورد ما يُقَيِّدُه.
فليس مرادُ السَّلَفِ بـ «النَّسخ» إذًا أنه (رفع حكم الدليل المتقدِّم بدليلٍ متأخِّرٍ عنه)، كما هو اصطلاح الأصوليين المتأخِّرين (?).
وقد يجري هذا على مذهب من يقول من الأصوليين: إن الزيادة على النَّصِّ نَسخٌ، وهذا مذهبٌ معروفٌ ومشهورٌ عن الحنفية (?).
وحَمْلُ كلام الأئمة من السَّلَف على التوجيه الأول أولى؛ لأن الذين يقولون إن الزيادة على النصِّ نَسْخٌ هم يريدون به حقيقة «النَّسْخِ» المراد عند الأصوليين، من أنَّه (رَفعُ حكمِ الدَّليل المتقدِّم بالدَّليل المتأخِّر).
ولهذا قال مَن قال من الفقهاء -وهو كما ذكرتُ مشهورٌ عن الحنفية (?) -: إن زيادة حكم «التغريب» على «الجلد» في حدِّ الزاني البِكْر نَسْخٌ؛ لأنَّ حكم «التغريب» الوارد في السنَّة هو حكمٌ زائدٌ على ما ورد في القرآن في قوله تعالى: {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة} [النور:2].