ثم قال رحمه الله: (كما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه في حياته وأما بعد موته فحاشا وكلا أنهم سألوا ذلك عند قبره) فلم يُنقل عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يأتون إلى قبره ويسألونه الدعاء، ولو فُعل لنُقل، بل الذي نُقل عنهم رضي الله عنهم أنهم نهوا من أتى يسأل الله عند قبره كما روي ذلك عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، فإنه رأى رجلاً كان يأتي إلى فرجة عند بيت النبي صلى الله عليه وسلم يدعو فنهاه، وقال له: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تتخذوا قبري عيداً، وصلوا عليّ أينما كنتم فإن صلاتكم تبلغني) ، وهذا فيه النهي عن قصد القبر من أجل الدعاء، فمن قصد قبر النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره لأجل أن يدعو الله سبحانه وتعالى عنده فإن هذا بدعة، وأما لو قصده للطلب من الميت أن يدعو الله سبحانه وتعالى له فهذا بدعة منكرة، وهو من وسائل الشرك، فلو سأل الميت نفسه فإنه يكون قد وقع في الشرك الذي ينقل عن الملة كما قال سبحانه وتعالى: {فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18] ، فمن دعا غير الله فقد أشرك في هذه العبادة، ومن صرف عبادة لغير الله سبحانه وتعالى فقد وقع في الشرك، وفُهم من هذا خطأ ما يفعله كثير من الناس الآن إذا ذهب للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم في قبره توجه إلى القبلة يدعو، فإن هذا الأمر محدث، بل نص شيخ الإسلام رحمه الله في الجواب الباهر على أن هذا من البدع، فعلى العبد إذا سلم أن ينصرف ويدعو في أي مكان في المسجد، ولا يتقصد ولا يتحرى الدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن هذا من المحدثات، ولو قال قائل: إن هذا من المسجد، فإن المسجد قد أحاط ببيت النبي صلى الله عليه وسلم من كل جانب، فالجواب: أن الممنوع هو أن تتقصد هذا المكان للدعاء؛ لأن الناس لا يفهمون أن هذا من المسجد، بل هم يظنون أنك وقفت تدعو هنا لأجل بركة المكان، وهو قربك من قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فاذهب وانصرف وادع الله حيثما شئت.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن الصحابة رضي الله عنهم لم يُنقل عنهم قصد الحجرة للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما جاء عن ابن عمر أنه كان إذا قدم من سفر يأتي ويسلم على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى أبي بكر، وعلى عمر يقول: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبي! وينصرف، ونُقل مثل هذا عن أنس رضي الله عنه أيضاً، وأما سائر الصحابة فلم يفعلوا ذلك، ولم يثبت عنهم حتى المجيء للسلام، بل كانوا يكتفون بالسلام عند دخول المسجد، ولا يقصدون الحجرة أو القبر للسلام على النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا من الأمور التي انتشرت بعد عهد الصحابة رضي الله عنهم.
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الوفود كانت تفد إلى المسجد النبوي وتدخل وتخرج ولا تقف عند القبر لا للسلام ولا لغيره.
والذي يظهر لي أن هذا هو الأحسن والأكمل، فيكتفي بالسلام عند دخوله للمسجد، ولا يقصد الحجرة أو القبر للسلام، فإن هذا لم يفعله إلا ابن عمر رضي الله عنه، فمن فعله تأسياً بـ ابن عمر رضي الله عنه فليقف عند ورد عن ابن عمر رضي الله عنه، فإن الذي ورد عنه أنه كان يقول: السلام عليك يا رسول الله! السلام عليك يا أبا بكر! السلام عليك يا أبتي! وينصرف، ولا يفعله إلا عند المجيء من السفر، أما ما يفعله كثير من الناس من السلام عليه بعد كل صلاة، وبعضهم إذا لم يتمكن أو كان عنده شغل ولا يستطيع الذهاب إلى جوار الحجرة وقف في مكانه، وتوجه إلى القبر، وتمتم ببعض الكلمات، ثم انصرف؛ فهذا لا شك أنه من البدع والمحدثات، وكل بدعة ضلالة.