ثم قال رحمه الله: [وللمشركين شبهة أخرى يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم أنكر على أسامة قتل من قال: لا إله إلا الله، وقال له: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟!) ، وكذلك قوله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله] ، وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة: أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل! فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ويدعون الإسلام، وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار.
وهؤلاء الجهلة مقرون أن من أنكر البعث كفر وقتل ولو قال: لا إله إلا الله، وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقتل ولو قالها، فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع، وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه؟ ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث] ولن يفهموا، وهؤلاء يصدق عليهم قول القائل: ما زالت الشبهات تغزو قلبه حتى تشّحط بينهن قتيلاً فهؤلاء غزت الشبهات قلوبهم؛ ولذلك أصبحوا يتعلقون في تسويغ ما هم عليه من باطل وشرك بكل ما فيه أدنى شبهة، وإلا فالأحاديث يصدق بعضها بعضاً {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فالكتاب والسُنّة من عند الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أن يوجد فيها اختلاف كما أخبر جل وعلا في قوله: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ، فهم هنا استندوا إلى هذه الشبهة في تسويغ الشرك، وأنه من قال: لا إله إلا الله فإنه لا يكفر، وهذا تفريع عن الشبهة السابقة، حيث استدلوا بحديث أسامة رضي الله عنه حين قتل رجلاً قال: لا إله إلا الله، وذلك في إحدى الغزوات، فإن أسامة رضي الله عنه تبع رجلاً، فلما تمكن منه قال الرجل: لا إله إلا الله، فقتله أسامة رضي الله عنه، فلما رجعوا إلى المدينة أُخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما فعل أسامة، فقال له: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوذاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أشققت عن قلبه) ، وفي بعض الروايات أنه قال: (ما تصنع بلا إله إلا الله؟) أخذ يكررها صلى الله عليه وسلم حتى قال أسامة رضي الله عنه: وددت أني لم أسلم إلا يومئذ؛ وذلك من شدة ما وجد من إنكار النبي صلى الله عليه وسلم.
واستدلوا أيضاً بما رواه الشيخان من حديث ابن عمر: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة؛ فإن فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله) ، فاستدلوا بهذا على تحريم دم من قال: لا إله إلا الله، وعصمة ماله وقالوا: إن من قال: لا إله إلا الله فلا يكفر.
ثم قال رحمه الله: (وأحاديث أخرى في الكف عمن قالها، ومراد هؤلاء الجهلة أن من قالها لا يكفر ولا يقتل ولو فعل ما فعل!) ، وهذا تكذيب لباقي ما جاء في الكتاب والسُنّة من وجوب الإقرار ببقية الشرائع، وأنه قد يكفر الشخص ببعض الأفعال أو بعض الأقوال ولو كان مقراً بلا إله إلا الله.
فقال رحمه الله في الجواب على هذه الشبهة: (فيقال لهؤلاء المشركين الجهال: معلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل اليهود وسباهم وهم يقولون: لا إله إلا الله، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلوا بني حنيفة وهم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويصلون، ويدّعون الإسلام؛ وكذلك الذين حرقهم علي بن أبي طالب بالنار) هذا أول دليل ساقه الشيخ رحمه الله على أنه قد يقول المرء: لا إله إلا الله، ويكفر، ويُقَاتل بسبب إنكاره شيئاً من الدين أو جحده شيئاً مما تقتضيه هذه الكلمة؛ من وجوب إفراد الله بالعبادة، ومن وجوب اتباع النبي صلى الله عليه وسلم والانقياد لما جاء به، هذا أول ما ساقه في إبطال هذه الشبهة.
ثم قال رحمه الله: (وهؤلاء الجهلة مقرون -هذا ثاني ما ذكره في إبطال هذه الشبهة- أن من أنكر البعث كفر وقُتِل ولو قال: لا إله إلا الله) فهم متناقضون، وهذا هو وصف كل من خالف كتاب الله وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلم فإنه في أمر مريج كما قال الله سبحانه تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق:5] أي: مضطرب غير ثابت؛ ولذلك اضطربوا في هذا، فكفروا من أنكر البعث مع قوله: لا إله إلا الله، وأحلوا دمه وماله، وهذا ثاني ما يجاب به على شبهتهم، وعلى ما استدلوا به من الأحاديث، قال: (وأن من جحد شيئاً من أركان الإسلام كفر وقُتِل ولو قالها؛ فكيف لا تنفعه إذا جحد فرعاً من الفروع وتنفعه إذا جحد التوحيد الذي هو أساس دين الرسل ورأسه؟! ولكن أعداء الله ما فهموا معنى الأحاديث) ولن يفهموا لأنهم لم يتأملوا ولم يأخذوا بالنصوص ويُعملوها جميعاً، إنما أخذوا ببعضها، ولم يفسروا قول الله بعضه ببعض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، وإنما ضربوا كتاب الله بعضه ببعض، وقول النبي صلى الله عليه وسلم بعضه ببعض، فانتقوا ما يشاءون، قال الله: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] ، وقال: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7] ، وقوله: (ولن يفهموا) لأن قلوبهم أُشربت هذه الشبه، وعشعشت في نفوسهم، فلا يتمكنون من التخلص منها إلا بتوفيق من الله سبحانه وتعالى، وإلا فالدلائل على كذب ما يقولونه وبطلان ما يشبهون به واضحة بينة.
ثم قال رحمه الله في الجواب على شبهتهم، وهو ثالث جواب: [فأما حديث أسامة فإنه قتل رجلاً ادعى الإسلام بسبب أنه ظن أنه ما ادعى الإسلام إلا خوفاً -ولذلك قال: (إنما قالها تعوذاً) - على دمه وماله، والرجل إذا أظهر الإسلام -الآن يبين الشيخ وجه إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة -وجب الكف عنه حتى يتبين منه ما يخالف ذلك] أي: ما يخالف ما أقر به من الإسلام والتوحيد.
ثم قال: [وأنزل الله تعالى في ذلك -يعني: في هذا الأمر، من وجوب الكف عمن ظهر منه ما يدل على إسلامه حتى يتبين أمره-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا} [النساء:94] أي: فتثبتوا] فالآية تدل على أنه يجب الكف عمن ظهر منه ما يدل على الإسلام من قول: لا إله إلا الله أو التحية بتحية أهل الإسلام.
قال رحمه الله: [فالآية تدل على أنه يجب الكف عنه والتثبت، فإذا تبين منه بعد ذلك ما يخالف الإسلام قتل، لقوله تعالى: (فَتَبَيَّنُوا) ، ولو كان لا يقتل إذا أقرّ بلا إله إلا الله إذا قالها لم يكن للتثبت معنىً] هذا واضح، إذ لو كان لا يقتل لما أمرنا بالتبيّن، ولقال: كفوا عنه، وانتهينا، وما احتاج أن يقول: (فتبينوا) لكن أمر بالتبيّن حتى يروا هل ما قاله صدق من قلب مؤمن بما يقول أم أنه كذب ومين؟