قال الشيخ رحمه الله: [والمراد من هذه الكلمة معناها لا مجرد لفظها] ، وهذه أول الانحرافات التي وقعت في هذه الكلمة، وهي أن بعض المنتسبين لملة الإسلام ظنوا أن الكلمة تفيد ما يترتب عليها من أحكام بمجرد نطق اللفظ دون التقييد بالمعنى، ولا شك أن هذا انحراف خطير؛ فإن (لا إله إلا الله) كلمة يطلب لفظها ومعناها؛ ولذلك وقعت الخصومة بين الرسول وقومه؛ فإنه لو كان المطلوب مجرد الكلمة لقالوها وأدوها، لكن علموا أن المراد هو معنى الكلمة، وسيذكر الشيخ عنهم ما يدل على أنهم فهموا أن المعنى هو المراد فقالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ، ولو كان النبي صلى الله عليه وسلم قد طلب منهم مجرد التلفظ بهذه الكلمة لما استعجبوا ولما استغربوا من هذا الطلب، إذ أنه لفظ مجرد عن معناه، ولا إله إلا الله لا تنفع قائلها إلا باستيفاء شروطها، وتقييدها بالقيود كما ورد ذلك عن السلف.
قال الشيخ رحمه الله: [والكفار الجهال يعلمون أن مراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الكلمة هو إفراد الله تعالى بالتعلق به والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه] ، فمعنى لا إله إلا الله: إفراد الله بالعبادة، ومعناها البراءة من الشرك وأهله، ولذلك ذكر الشيخ رحمه الله في الثلاثة الأصول أن الذي يفسر معنى هذه الآية هو قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف:26-27] فجعل تفسير لا إله إلا الله البراءة من الشرك وأهله، وإفراد الله سبحانه وتعالى بالتوحيد والعبادة؛ ولذلك لا يصح التوحيد إلا بالجمع بين إفراد الله بالتوحيد وبين البراءة من الشرك وأهله، فلو أفرد العبد الله بالتوحيد لكنه لم يقم بالبراءة من الشرك وأهله؛ فإنه لا ينفعه ذلك بشيء، قال الله جل ذكره: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] .
فرتب الله سبحانه وتعالى الاستمساك بالعروة الوثقى على أمرين: الكفر بالطاغوت، والإيمان بالله، فلو آمن بالله: بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، ولم يكفر بالطاغوت؛ لم ينفعه ذلك بشيء، إذ أن من مقتضيات إفراد الله بالعبادة الكفر بما يعبد من دونه، كما قال جل ذكره: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [البقرة:256] ، ويدل عليه أيضاً ما في صحيح مسلم من حديث طارق بن أشيم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من قال: لا إله إلا الله، وكفر بما يعبد من دون الله حرم ماله ودمه) ، فرتب تحريم الدم والمال على قول: (لا إله إلا الله) ، والكفر بما يعبد من دون الله، ولذلك فسر الشيخ رحمه الله المراد بهذه الكلمة فقال: هو إفراد الله تعالى بالتعلق، والكفر بما يعبد من دون الله والبراءة منه، يعني: البراءة مما عبد من دون الله؛ فإنه لما قال لهم: قولوا: لا إله إلا الله، قالوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] ؛ فاستعظموا واستغربوا -قاتلهم الله- أن يفرد الله بالعبادة، مع أنهم يقرون أنه لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله، ولا مالك إلا الله، ولا مدبر إلا الله، ولا محيي ولا مميت إلا الله، ومع ذلك استغربوا كيف تصرف العبادة لواحد؟! وضاقت عقولهم عن أن يتوجهوا لله سبحانه وتعالى وحده دون غيره فقالوا: (إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ) يعني: في منتهى العجب، ومنتهى الاستغراب، أن نصرف العبادة لواحد.
ولا شك أن ما استعجبوا منه ليس بعجيب، بل هو الذي تدل عليه العقول الصحيحة؛ فإن من كان يرزق وحده، ومن كان يملك وحده، ومن كان يخلق وحده، ومن كان يدبر وحده؛ فهو المستحق أن يعبد وحده، ولذلك كانت الرسل تستدل بتوحيد الربوبية على توحيد الإلهية، وتقرر توحيد الإلهية بتقرير توحيد الربوبية، ولكن لما فسدت قلوب المشركين فسدت عقولهم.
قال الشيخ رحمه الله: [فإذا عرفت أن جهال الكفار يعرفون ذلك، فالعجب ممن يدعي الإسلام وهو لا يعرف من تفسير هذه الكلمة ما عرفه جهال الكفار!] ، ما الذي عرفه جهال الكفرة من هذه الكلمة؟ عرفوا أن تفسير هذه الكلمة: هو إفراد الله بالعبادة، والكفر بما عبد من دونه، والبراءة منه، هذا الذي فهمه الكفار، فالعجيب ممن ينتسب إلى الإسلام ولا يفهم من هذه الكلمة ما فهمه جهال الكفار! قال الشيخ رحمه الله: [بل يظن أن ذلك هو التلفظ بحروفها من غير اعتقاد القلب لشيء من المعاني] .