هذه القضية هي البوابة الكبرى التي يدخل منها المشركون في الشرك قديماً وحديثاً، فإن السبب الذي يعتمد عليه ويسوغ به كثير من المشركين وكثير من الواقعين في صرف العبادة لغير الله أفعالهم؛ إنما هي قضية الشفاعة والوسيلة، ولذلك قطع الله سبحانه وتعالى عليهم الطريق، وأغلق دونهم الباب فقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] ، فأغلق الباب الذي يعتمدونه ويلجئون إليه، فالشفاعة التي يعتمدون عليها في تسويغ الشرك لا تنفع إلا بإذنه، ويدلك على أن هذا هو أصل الشرك قوله جل ذكره: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18] ، فجعل اتخاذ هؤلاء شفعاء شركاً، ثم قال: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً} [يونس:19] ، أي: ما كان الناس إلا ملة واحدة -وهو التوحيد- فاختلفوا، وسبب اختلافهم هو هذه الشبهة المذكورة في الآية المتقدمة، وهي أنهم قالوا: ((هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ)) [يونس:18] ، فهذا يدلك على أن السبب الذي أوقع المتقدمين والمتأخرين في الشرك، هو أنهم لجئوا إلى غير الله في طلب حوائجهم، وزعموا أن هؤلاء شفعاء وأنهم لا يصرفون إليهم هذه العبادة لأنهم يخلقون، ولا لأنهم يملكون، ولا لأنهم يدبرون؛ بل لأنهم وسائط وشفعاء.
ثم قال الشيخ رحمه الله: [ولكنهم يجعلون بعض المخلوقات وسائط] علة هذه الوسائط أنهم يتخذونهم سبيلاً إلى التقرب إلى الله، ويتخذون شفاعتهم سبيلاً إلى تحقيق مطالبهم.
ثم مثّل لهذه الوسائط فقال: [مثل الملائكة وعيسى ومريم وأناس غيرهم من الصالحين] والمشركون -كما سيتبين لنا من خلال كلام الشيخ رحمه الله- لم يكونوا مقتصرين في عباداتهم على الملائكة والصالحين، بل عبدوا أيضاً الأحجار والأشجار وغيرها، وإنما -كما يبدو لي والعلم عند الله- أضرب الشيخ عن ذكر هذا؛ لأنه إذا كانت عبادة هؤلاء من دون الله لا تصح، وعبادة الملائكة وعبادة عيسى ومريم وغيرهم من الصالحين لا تنفع؛ فانتفاء النفع في عبادة غيرهم من الجمادات من باب أولى.