قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وقد أحدث قوم من ملاحدة الفلاسفة الدهرية للشرك شيئاً آخر ذكروه في زيارة القبور كما ذكر ذلك ابن سينا، ومن أخذ عنه كصاحب الكتب المضنون بها وغيره، ذكروا معنى الشفاعة على أصلهم، فإنهم لا يقرون بأن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، ولا أنه يعلم الجزئيات ويسمع أصوات عباده ويجيب دعاءهم].
كما أشرت في الدرس السابق يقصد الشيخ بصاحب الكتب المضنون بها الغزالي، فـ الغزالي في طوره الأول حينما كان على مذهب الفلاسفة كان يرى هذا الرأي، وكذلك عموم الفلاسفة الذين يسمون بالإسلاميين والإسلام منهم براء كـ ابن سينا والفارابي والسهروردي المقتول وابن سبعين وابن الفارض وابن عربي والقونوي ومن سلك سبيلهم هذه العصابة التالفة كلهم رأيهم في هذه الأمور على هذا النهج، فهم يستسيغون الشرك ويرون أنه من الصلة العقلية والروحية بقوى أخرى غيبية، ويستسيغون القول عن الله عز وجل بقول الفلاسفة بأنه الوجود المطلق، وما يترتب على ذلك من إنكار أن يكون الله عز وجل فعّالاً لما يريد، وأن يكون سبحانه عالماً بكل شيء، فهم يثبتون لله مجملات الصفات ومجملات الأسماء ومجملات الأحوال، فكل تصورهم عن الله عز وجل يدور حول أنه تصور ذهني أو أنه الوجود المطلق أو نحو ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فشفاعة الأنبياء والصالحين على أصلهم ليست كما يعرفه أهل الإيمان من أنها دعاء يدعو به الرجل الصالح فيستجيب الله دعاءه.
كما أن ما يكون من إنزال المطر باستسقائهم ليس سببه عندهم إجابة دعائهم، بل هم يزعمون أن المؤثر في حوادث العالم هو قوى النفس أو الحركات الفلكية أو القوى الطبيعية.
فيقولون: إن الإنسان إذا أحب رجلاً صالحاً قد مات لا سيما إن زار قبره فإنه يحصل لروحه اتصال بروح ذلك الميت فيما يفيض على تلك الروح المفارقة من العقل الفعال عندهم أو النفس الفلكية، يفيض على هذه الروح الزائرة المستشفعة من غير أن يعلم الله بشيء من ذلك، بل وقد لا تعلم الروح المستشفع بها بذلك، ومثلوا ذلك بالشمس إذا قابلها مرآة فإنه يفيض على المرآة من شعاع الشمس، ثم إذا قابل المرآة مرآة أخرى فاض عليها من تلك المرآة، وإن قابل تلك المرآة حائط أو ماء فاض عليه من شعاع تلك المرآة، فهكذا الشفاعة عندهم، وعلى هذا الوجه ينتفع الزائر عندهم.
وفي هذا القول من أنواع الكفر ما لا يخفى على من تدبره].
هذه نزعة الاعتقاد عندهم، وهي أن كل ما جاء عن الله عز وجل وما جاء عن رسوله صلى الله عليه وسلم إنما هو تأثير من قوى غيبية، وهذه نزعة فلسفية توجد عند كثير من أصحاب المذاهب والاتجاهات، بل أرى أنها سادت الآن عند كثير من مثقفي المسلمين ومفكريهم في العصر الحاضر، ويتمثل هذا بعدة صور: أولاً: نجد أن كثيراً ممن قلد الغربيين في الدراسات الإنسانية يفسّرون كثيراً من المعاني الشرعية المؤثرة في الناس، سواء بالتأثير النفسي أو التأثير العقلي أو في أفعال الناس؛ يرون أنها مجرد عوامل نفسية أو وهمية، أو تأثيرات من قوى غيبية، فتجد مثلاً بعض علماء النفس يفسّر تأثير القرآن أنه مجرد شعور نفسي بين القارئ والمقروء عليه، ونجد هذه التفسيرات حتى عند بعض أطباء الأمراض النفسية من المسلمين.
وبدأت تشيع هذه القضية بين بعض مثقفينا، وهذا امتداد لمذاهب الفلاسفة وأوهامهم يعتقدون أن تأثير القرآن في شفاء الأمراض إنما هو مجرد شعور نفسي، ويفسّرونه بأن الإنسان إذا قرئ عليه القرآن وهو يعتقد أن للقرآن تأثيراً، وإذا قويت قاومت الأمراض، فوجد شيئاً من النشاط والاستعداد لمقاومة الأمراض، وهذا تفسير مادي وهو تفسير الفلاسفة للوحي ولما جاء به الأنبياء، بل بعضهم ربما ينزع إلى المؤثرات الشرعية على قلوب الناس، التي هي تؤدي إلى الهداية واليقين والتوكل على الله عز وجل، كثيراً من الناس يفسرها بأنها أوهام، وبعضهم يفسرها بأنها تأثير قوى غيبية أقول: إن هذه الأقوال التي قال بها الفلاسفة ناتجة على أنهم ليس عندهم منهج في تقرير قضايا الدين، إنما يقررون قضايا الدين بعقولهم، والعقول في قضايا الدين ليس عندها إلا التوهمات، ولذلك حكّموا عقولهم فغاصوا في الأوهام، فلما وجدوا تأثير الوحي في ضبط سلوك الناس بشرائع الله عز وجل ودينه، ذهبوا يفكّرون عن أسباب هذا التأثير، ونظراً لأنهم لا يؤمنون حق الإيمان بكلام الله عز وجل وبحقيقة النبوة والرسالة، ذهبوا يبحثون عن أسباب هذه المؤثرات بأوهامهم، فمن هنا فسّروا ما جاء به الأنبياء من الوحي والشرائع إنما هي امتداد أو انعكاس لمؤثرات خارجية توهموها هم، فبعضهم قال: قوى غيبية، وبعضهم قال: أرواح غيبية، وبعضهم قال: عقول غيبية، وبعضهم قال: أوهام، فصارت تفسيراتهم شتى، وكلها إنما هي أوهام وتخرصات بعيدة عن الحق كل البعد، وهذا أمر بيّن، لكن الخطير أن تفسير القضايا الشر