قال رحمه الله: [وفيه أيضاً أنه قال: (وشفعني فيه).
وليس المراد أن يشفع للنبي صلى الله عليه وسلم في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، وإن كنا مأمورين بالصلاة والسلام عليه، وأمرنا أن نسأل الله له الوسيلة.
ففي صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من قال إذا سمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة)].
إذاً: قوله: (وشفّعني فيه) إذا ثبتت فإن المقصود بها الإشارة إلى أنه يدعو الله عز وجل بأن يقبل منه الدعاء كما يقبل من النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يقبل الله دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه.
وقوله: (شفّعني): يعني استجب دعائي، فليس المقصود بالتشفيع بأن يكون له على النبي صلى الله عليه وسلم عدالة أو فضل، ولكن كأنه يقول: اقبل دعائي كما تقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا نوع من الإشفاق والحرص على كشف الضر.
قال رحمه الله تعالى: [وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة فإنها درجة في الجنة، لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا ذلك العبد، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة).
وسؤال الأمة له الوسيلة هو دعاء له، وهو معنى الشفاعة؛ ولهذا كان الجزاء من جنس العمل، فمن صلى عليه صلى عليه الله، ومن سأل الله له الوسيلة المتضمنة لشفاعته، شفع له صلى الله عليه وسلم، كذلك الأعمى سأل منه الشفاعة، فأمره أن يدعو الله بقبول هذه الشفاعة، وهو كالشفاعة في الشفاعة؛ فلهذا قال: اللهم فشفعه في وشفعني فيه.
وذلك أن قبول دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في مثل هذا هو من كرامة الرسول على ربه؛ ولهذا عُدّ هذا من آياته ودلائل نبوته، فهو كشفاعته يوم القيامة في الخلق، ولهذا أمر طالب الدعاء أن يقول: (فشفعه في وشفعني فيه).
بخلاف قوله: (وشفعني في نفسي)، فإن هذا اللفظ لم يروه أحد إلا من هذا الطريق الغريب.
وقوله: (وشفعني فيه) رواه عن شعبة رجلان جليلان: عثمان بن عمر وروح بن عبادة، وشعبة أجل من روى هذا الحديث، ومن طريق عثمان بن عمر عن شعبة رواه الثلاثة: الترمذي والنسائي وابن ماجه.
رواه الترمذي عن محمود بن غيلان عن عثمان بن عمر عن شعبة.
ورواه ابن ماجه عن أحمد بن يسار عن عثمان بن عمر.
وقد رواه أحمد في المسند عن روح بن عبادة عن شعبة فكان هؤلاء أحفظ للفظ الحديث، مع أن قوله: (وشفعني في نفسي)، إن كان محفوظاً مثل ما ذكرناه، وهو أنه طلب أن يكون شفيعاً لنفسه مع دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ولو لم يدع له النبي صلى الله عليه وسلم كان سائلاً مجرداً كسائر السائلين.
ولا يسمى مثل هذا شفاعة، وإنما تكون الشفاعة إذا كان هناك اثنان يطلبان أمراً فيكون أحدهما شفيعاً للآخر، بخلاف الطالب الواحد الذي لم يشفع غيره.
فهذه الزيادة فيها عدة علل: انفراد هذا بها عمن هو أكبر وأحفظ منه، وإعراض أهل السنن عنها، واضطراب لفظها، وأن راويها عُرف له عن روح هذا أحاديث منكرة.
ومثل هذا يقتضي حصول الريب والشك في كونها ثابتة فلا حجة فيها، إذ الاعتبار بما رواه الصحابي لا بما فهمه إذا كان اللفظ الذي رواه لا يدل على ما فهمه، بل على خلافه.
ومعلوم أن الواحد بعد موته إذا قال: (اللهم فشفعه في وشفعني فيه) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يدع له كان هذا كلاماً باطلاً، مع أن عثمان بن حنيف لم يأمره أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا أن يقول: (فشفعه في)، ولم يأمره بالدعاء المأثور على وجهه، وإنما أمره ببعضه، وليس هناك من النبي صلى الله عليه وسلم شفاعة، ولا ما يُظن أنه شفاعة، فلو قال بعد موته: فشفعه في لكان كلاماً لا معنى له، ولهذا لم يأمر به عثمان، والدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر به، والذي أمر به ليس مأثوراً عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومثل هذا لا تثبت به شريعة، كسائر ما ينقل عن آحاد الصحابة في جنس العبادات أو الإباحات أو الإيجابات أو التحريمات، إذا لم يوافقه غيره من الصحابة عليه، وكان ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم يخالفه لا يوافقه، لم يكن فعله سنة يجب على المسلمين اتباعها، بل غايته أن يكون ذلك مما يسوغ فيه الاجتهاد، ومما تنازعت فيه الأمة، فيجب