قال رحمه الله تعالى: [والمشركون من هؤلاء قد يقولون: إنا نستشفع بهم أي نطلب من الملائكة والأنبياء أن يشفعوا، فإذا أتينا قبر أحدهم طلبنا منه أن يشفع لنا، فإذا صورنا تمثاله -والتماثيل إما مجسدة وإما تماثيل مصورة كما يصورها النصارى في كنائسهم- قالوا: فمقصودنا بهذه التماثيل تذكر أصحابها وسيرهم، ونحن نخاطب هذه التماثيل ومقصودنا خطاب أصحابها ليشفعوا لنا إلى الله، فيقول أحدهم: يا سيدي فلان، أو يا سيدي جرجس أو بطرس أو يا ستي الحنونة مريم، أو يا سيدي الخليل أو موسى بن عمران أو غير ذلك، اشفع لي إلى ربك، وقد يخاطبون الميت عند قبره: سل لي ربك، أو يخاطبون الحي وهو غائب كما يخاطبونه لو كان حاضراً حياً، وينشدون قصائد، يقول أحدهم فيها: يا سيدي فلان! أنا في حسبك أنا في جوارك، اشفع لي إلى الله، سل الله لنا أن ينصرنا على عدونا، سل الله أن يكشف عنا هذه الشدة، أشكو إليك كذا وكذا، فسل الله أن يكشف هذه الكربة.
أو يقول أحدهم: سل الله أن يغفر لي، ومنهم من يتأول قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا} [النساء:64]، ويقولون: إذا طلبنا منه الاستغفار بعد موته كنا بمنزلة الذين طلبوا الاستغفار من الصحابة، ويخالفون بذلك إجماع الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر المسلمين، فإن أحداً منهم لم يطلب من النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته أن يشفع له ولا سأله شيئاً، ولا ذكر ذلك أحد من أئمة المسلمين في كتبهم، وإنما ذكر ذلك من ذكره من متأخري الفقهاء، وحكوا حكاية مكذوبة على مالك رضي الله عنه سيأتي ذكرها وبسط الكلام عليها إن شاء الله تعالى].
يقصد بذلك أن الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وتابعيهم وأئمة السلف في القرون الثلاثة الفاضلة، لم يكن أحد منهم يأتي إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فيسأله شيئاً ولا يطلب منه شيئاً لا لجلب نفع ولا لدفع ضر، هذا بإجماع أهل التحقيق من المسلمين، مع أن الصحابة تحدث لهم من الكروب والكوارث والمصائب الخاصة والعامة ما يستدعي أن يطلبوا لو كان ذلك مشروعاً من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو الله، والمعنى أن الصحابة لم يكونوا يطلبون من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو لهم، فهذه قاعدة عظيمة يجب استصحابها، وهي رد قاطع بين على جميع أهل الأهواء والبدع الذين يمارسون هذه الشركيات عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لم يرد ولم ينقل عن أحد من الأئمة المعتبرين أنه كان يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجيز الوقوف لدعائه أو يطلب منه شيئاً لا من أمر الدين ولا من أمر الدنيا، ولا يطلب منه أن يدعو الله له.
بعضهم يقول: نعم، أنا لا أطلب من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً؛ لكن أطلب منه أن يدعو الله أن يفرج عن المسلمين مثلاً.
فنقول: هذا لم يحدث من الأئمة السابقين، بل كانوا إذا حدث أمر يتوجهون إلى القبلة ويدعون الله عز وجل جماعة وأفراداً مع قربهم من القبر.
إذاً: هذا إجماع على أن السلف لم يكن عندهم شيء من هذه البدع بإطلاق، فضلاً عن أن يقروها.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه الأنواع من خطاب الملائكة والأنبياء والصالحين بعد موتهم عند قبورهم وفي مغيبهم، وخطاب تماثيلهم، هو من أعظم أنواع الشرك الموجود في المشركين من غير أهل الكتاب، وفي مبتدعة أهل الكتاب والمسلمين الذين أحدثوا من الشرك والعبادات ما لم يأذن به الله تعالى، قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، فإن دعاء الملائكة والأنبياء بعد موتهم وفي مغيبهم وسؤالهم والاستغاثة بهم والاستشفاع بهم في هذه الحال، ونصب تماثيلهم بمعنى طلب الشفاعة منهم هو من الدين الذي لم يشرعه الله ولا ابتعث به رسولاً ولا أنزل به كتاباً، وليس هو واجباً ولا مستحباً باتفاق المسلمين، ولا فعله أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولا أمر به إمام من أئمة المسلمين، وإن كان ذلك مما يفعله كثير من الناس ممن له عبادة وزهد، ويذكرون فيه حكايات ومنامات، فهذا كله من الشيطان، وفيهم من ينظم القصائد في دعاء الميت والاستشفاع به والاستغاثة، أو يذكر ذلك في ضمن مديح الأنبياء والصالحين، فهذا كله ليس بمشروع ولا واجب ولا مستحب باتفاق أئمة المسلمين، ومن تعبد بعبادة ليست واجبة ولا مستحبة وهو يعتقدها واجبة أو مستحبة فهو ضال مبتدع بدعة سيئة لا بدعة حسنة باتفاق أئمة الدين، فإن الله لا يعبد إلا بما هو واجب أو مستحب.
وكثير من الناس يذكرون في هذه الأنواع من الشرك منافع ومصالح، ويحتجون عليها بحجج من جهة الرأي أو الذوق، أو من جهة التقليد والمنامات ونحو ذلك.
وجواب هؤلاء من طريقين: أحدهما: الاحتجاج بالنص والإجماع.
والثاني: القياس والذوق والاعتبار ببيان ما في ذلك من الفساد، فإن فساد ذلك راجح على