قال المؤلف رحمه الله تعالى: [مثل ما ذكره في اللوح المحفوظ حيث جعله النفس الفلكية، ولفظ القلم حيث جعله العقل الأول، ولفظ الملكوت والجبروت والملك حيث جعل ذلك عبارة عن النفس والعقل، ولفظ الشفاعة حيث جعل ذلك فيضاً يفيض من الشفيع على المستشفع وإن كان الشفيع قد لا يدري، وسلك في هذه الأمور ونحوها مسالك ابن سيناء كما قد بسط في موضع آخر].
وهذا القدر مشترك عند جميع الفرق، أعني إعطاء المصطلحات الشرعية معاني بدعية، فالباطنية عندهم ظاهر وباطن، فهم يرون أن الباطن هو الحق المقصود، وأن الظاهر شكليات تصلح لعوام الناس الذين هم أهل ضلال عندهم، وأهل التصوف يقسمون المعاني الشرعية إلى حقيقة وشريعة، فالشريعة هي الأحكام الظاهرة، وتفسير النصوص بمقتضى اللغة ومقتضى التفسير المعلوم عند بقية العقلاء، والحقيقة هي تفسير النصوص بمعاني لا يدركها إلا أهل الاختصاص -ضلال الصوفية-! وكذلك الفلاسفة وغيرهم كل منهم عنده قدر، نأتي إلى أهل البدع العملية في العبادات كبدع الموالد وغيرها، فهؤلاء عندهم قدر من هذه المعاني، فهم عندما يعبدون المخلوقات من دون الله سواء كانت بشراً أو غير بشر، أو عندما يتوسلون ويتبركون بالأشياء؛ فعندهم شعور أن لها أرواحاً ونفوساً، وأن هذه الأرواح والنفوس تمدهم بالبركة، ولذلك تجد الواحد منهم إذا كان عند قبر صالح يقول: المدد يا فلان، اعتقاداً منه أن للأرواح فيضاً يسعفه.
ونحن نقول: الأرواح لها معان لكنها معان غيبية ليس لها علاقة بتصريف الكون أو التأثير في مصالح العباد أو مقاديرهم، وإلا فلاشك أن الأرواح عالم آخر، فالأحلام والرؤى، وما ورد في الشرع مما يقع للأموات في قبورهم، وما يقع بين الأموات والأحياء من أمور روحية في الأحلام وغيره كل هذا معلوم، لكن ينبغي ألا يتعدى ما ثبت في الشرع، هذا من ناحية.
والناحية الأخرى: ينبغي ألا يصل وجود شهادة الأرواح وتنقلها إلى حد أن يعتقد الإنسان أن لهذه الأرواح تأثيراً في مقاليد وشئون الأحياء من دون الله عز وجل.
فأقول: إن اعتقاد أن الألفاظ الشرعية لها معان غامضة، وأن هذه المعاني تتعلق بها القلوب أو الأحوال أو مقاليد البشر؛ هذا قدر مشترك تجده عند المبتدع الساذج الذي يتبرك ويتوسل، وعند المبتدع المركب الذي يشرك بالله عز وجل مثل الفلاسفة وغلاة الصوفية وغيرهم كلهم عندهم قدر مشترك في اعتقاد أن هناك تأثيراً للمخلوقات من دون الله عز وجل بعضها في بعض، وهذا التأثير هو سبب نزعة التعلق بالقبور والمشاهد والآثار، فمن مقل ومكثر، وهذه النزعة أول ما جاءتنا من العجم؛ لأنها موجودة في الديانات السابقة التي يعيشها العجم وهي جزء من كيانهم، إلا من طهر الله قلبه ونفسه بالدين الحق.
ولو تأملتم لوجدتم أن من أساسيات أهل البدع وتصوراتهم الضرورية اعتقاد أن ما يتمسحون به ويتوسلون ويتبركون له تأثير يفيض عليهم، ويعبرون عن هذا بتعبيرات كثيرة تختلف بحسب مشاربهم ومداركهم ومستوياتهم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمقصود هنا ذكر من يقع ذلك منه من غير تدبر منه للغة الرسول صلى الله عليه وسلم كلفظ القديم، فإنه في لغة الرسول صلى الله عليه وسلم التي جاء بها القرآن خلاف الحديث، وإن كان مسبوقاً بغيره، كقوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس:39]، وقال تعالى عن إخوة يوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95].
وقوله تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ} [الشعراء:75 - 76].
وهو عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه وجود غيره إن لم يكن مسبوقاً بعدم نفسه، ويجعلونه -إذا أريد به هذا- من باب المجاز، ولفظ المحدث في لغة القرآن مقابل للفظ القديم في القرآن].
هذا في الحقيقة من المناهج الباطلة عند أهل الكلام، أنهم يسلكون في تبيين الحقائق أوعر المسالك، والشيخ نقل أن القديم عند أهل الكلام عبارة عما لم يزل أو عما لم يسبقه ذو جود غيره، ويقصدون الذي ليس قبله شيء، ولو قالوها لأراحونا وأراحوا أنفسهم، كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم اسم الله الأول الذي ليس قبله شيء؛ لكنهم يبحثون عن أعسر معنى وأبعد أسلوب يوصلك إلى ما يريدون؛ لأنك تستبعد أن يكون قصدهم هو هذا المعنى البسيط، وهذا في عموم عبارات المتكلمين، وقد قرأت كتاباً يعتبر على درجة المتكلمين دون الفلاسفة، وهو كتاب التوحيد لـ أبي منصور الماتريدي، فإذا هو عسر جداً جداً، فقد كتبه بأسلوب ملتو بحيث تقرأ صفحة أو صفحات وتفاجأ بأنه يريد حقيقة بسيطة جداً، مثل قوله عز وجل: {أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [إبراهيم:10]، فتجد أنه قد بحث عن أوحش العبارات وأبعدها وأصعب الأساليب حتى يصل إلى هذه النتيجة.