قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: [وأما إجابة السائلين فعام، فإن الله يجيب دعوة المضطر ودعوة المظلوم وإن كان كافراً.
وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من داع يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى خصال ثلاث: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له من الخير مثلها، وإما أن يصرف عنه من الشر مثلها، قالوا: يا رسول الله! إذن نكثر، قال: الله أكثر).
وهذا التوسل بالأنبياء بمعنى السؤال بهم، وهو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه وغيرهم: إنه لا يجوز، ليس في المعروف من مذهب مالك ما يناقض ذلك، فضلاً أن يُجعل هذا من مسائل السبب، فمن نقل عن مذهب مالك أنه جوّز التوسل به بمعنى الإقسام به أو السؤال به، فليس معه في ذلك نقل عن مالك وأصحابه فضلاً عن أن يقول مالك: إن هذا سبب للرسول أو تنقص به.
بل المعروف عن مالك أنه كره للداعي أن يقول: يا سيدي سيدي، وقال: قل كما قالت الأنبياء: يا رب يا رب يا كريم، وكره أيضاً أن يقول: يا حنّان يا منّان، فإنه ليس بمأثور عنه.
فإذا كان مالك يكره مثل هذا الدعاء إذ لم يكن مشروعاً عنده، فكيف يجوز عنده أن يسأل الله بمخلوق نبياً كان أو غيره، وهو يعلم أن الصحابة لما أجدبوا عام الرمادة لم يسألوا الله بمخلوق، لا نبي ولا غيره، بل قال عمر رضي الله عنه: اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، فيُسقون.
وكذلك ثبت في صحيح مسلم عن ابن عمر وأنس وغيرهما رضي الله عنهم أنهم كانوا إذا أجدبوا إنما يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم واستسقائه، لم يُنقل عن أحد منهم أنه كان في حياته صلى الله عليه وسلم سأل الله تعالى بمخلوق، لا به ولا بغيره، لا في الاستسقاء ولا غيره، وحديث الأعمى سنتكلم عليه إن شاء الله تعالى.
فلو كان السؤال به معروفاً عند الصحابة لقالوا لـ عمر: إن السؤال والتوسل به أولى من السؤال والتوسل بـ العباس، فلِم نعدل عن الأمر المشروع الذي كنا نفعله في حياته -وهو التوسل بأفضل الخلق- إلى أن نتوسل ببعض أقاربه، وفي ذلك ترك السنة المشروعة وعدول عن الأفضل، وسؤال الله تعالى بأضعف السببين مع القدرة على أعلاهما، ونحن مضطرون غاية الاضطرار في عام الرمادة الذي يُضرب به المثل في الجدب.
والذي فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة من معه من الصحابة والتابعين، فتوسلوا بـ يزيد بن الأسود الجرشي كما توسل عمر بـ العباس رضي الله عنهما.
وكذلك ذكر الفقهاء من أصحاب الشافعي وأحمد وغيرهم أنه يتوسل في الاستسقاء بدعاء أهل الخير والصلاح، قالوا: وإن كانوا من أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، اقتداء بـ عمر رضي الله عنه، ولم يقل أحد من أهل العلم: إنه يُسأل الله تعالى في ذلك لا بنبي ولا بغير نبي.
وكذلك من نقل عن مالك أنه جوّز سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره بعد موتهم أو نقل ذلك عن إمام من أئمة المسلمين غير مالك كـ الشافعي وأحمد وغيرهما فقد كذب عليهم، ولكن بعض الجهال ينقل هذا عن مالك ويستند إلى حكاية مكذوبة عن مالك رحمه الله، ولو كانت صحيحة لم يكن التوسل الذي فيها هو هذا، بل هو التوسل بشفاعته يوم القيامة، ولكن من الناس من يحرف نقلها، وأصلها ضعيف كما سنبينه إن شاء الله تعالى.
والقاضي عياض لم يذكرها في كتابه في باب زيارة قبره صلى الله عليه وسلم، بل ذكر هناك ما هو المعروف عن مالك وأصحابه، وإنما ذكرها في سياق أن حرمة النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته وتوقيره وتعظيمه لازم كما كان حال حياته، وكذلك عند ذكره وذكر حديثه وسنته وسماع اسمه.
وذُكر عن مالك أنه سئل عن أيوب السختياني؟ فقال: ما حدثتكم عن أحد إلا وأيوب أفضل منه، قال: وحج حجتين فكنت أرمقه فلا أسمع منه غير أنه كان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبت عنه].
في هذا الشاهد والشواهد التالية عن السلف ذكر الشيخ نماذج من تعظيم السلف لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي يصل إلى حد أنهم يتأثرون عند ذكره وعند سماع اسمه، وعند ذكر حديثه أو عند الرواية عنه، فهو يشير بهذا بطريق مباشر إلا أن هؤلاء السلف رضي الله عنهم من الصحابة والتابعين وأئمة الهدى الذين كانوا يعظّمون الرسول صلى الله عليه وسلم حق تعظيم، ويجلّونه حق الإجلال، ويحبونه ويتأثرون بذكره أو