[ومنها: أن العباد لا يزالون مقصرين محتاجين إلى عفوه ومغفرته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، وما من أحد إلا وله ذنوب يحتاج فيها إلى مغفرة الله لها: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر:45].
وقوله صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله)، لا يناقض قوله تعالى: {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]؛ فإن المنفي نفي بباء المقابلة والمعاوضة، كما يقال: بعت هذا بهذا، وما أثبت أثبت بباء السبب، فالعمل لا يقابل الجزاء وإن كان سبباً للجزاء؛ ولهذا من ظن أنه قام بما يجب عليه، وأنه لا يحتاج إلى مغفرة الرب تعالى وعفوه؛ فهو ضال، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله! قال: ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل)، وروي: (بمغفرته).
ومن هذا أيضاً الحديث الذي في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله لو عذب أهل سمواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم) الحديث.
ومن قال: بل للمخلوق على الله حق؛ فهو صحيح إذا أراد به الحق الذي أخبر الله بوقوعه، فإن الله صادق لا يخلف الميعاد، وهو الذي أوجبه على نفسه بحكمته وفضله ورحمته.
وهذا المستحق لهذا الحق إذا سأل الله تعالى به يسأل الله تعالى إنجاز وعده، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات؛ كالأعمال الصالحة، فهذا مناسب.
وأما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص؛ فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص، وذلك سؤال بأمر أجنبي عن هذا السائل لم يسأله بسبب يناسب إجابة دعائه].
هذه -في الحقيقة- نتيجة لذاك الاستطراد، والله عز وجل إنما أوجب ما أوجبه على نفسه برحمته وفضله، وليس للعباد في ذلك أي منة على الله عز وجل، وليس ما يعطيهم الله عز وجل من الفضل مجازاة لأعمالهم، إنما الله عز وجل جعل الأعمال سبباً لرحمته وفضله ومنته.
قوله: (وهذا المستحق لهذا الحق)، يعني: العبد المؤمن إذا عمل بمقتضى ما وعد الله به؛ فإنه إذا سأل الله تعالى بطاعته التي أطاعه بها فإنما يسأل الله ما وعده الله به، لا بحق له يوجبه على الله.
وأيضاً: فإنما يسأل من فضل الله، لا من حق يمن به على الله، أو يسأله بالأسباب التي علق الله بها المسببات، فقد جعل الله عز وجل الأعمال الصالحة سبباً لتحصيل المطلوب عند الدعاء بها، كما ورد في قصة أصحاب الغار.
فجعل الداعي الأعمال الصالحة سبباً لما وعد الله به بفضله وكرمه، لا سبباً يجب على الله؛ هذا أمر.
قوله: (أما غير المستحق لهذا الحق إذا سأله بحق ذلك الشخص؛ فهو كما لو سأله بجاه ذلك الشخص)، أي: فإذا قال: اللهم إني أسألك بحق فلان، فهذا غير مشروع، إلا على وجه بعيد ضعيف سيأتي ذكره، يقول: هذا من العدوان؛ لأنك ما سألت بحقك، وذلك الشخص جاهه له، وحقه الذي وعد الله به له؛ لأنه بعمله، والناس لا ينفع أحد منهم الآخر بعمله يوم القيامة.
وقال: وذلك سؤال بأمر أجنبي، أي: ليس من عمل السائل، فلم يسأله بسبب يناسبه إجابة دعائه.
مثال ذلك: لو أن إنساناً عنده مؤهل جامعي، وآخر ليس عنده شهادة، فجاء هذا الذي ليس عنده شهادة تؤهله للوظيفة فأخذ شهادة الآخر وذهب بها إلى الجهات المسئولة ليتوظف بها؛ فإنهم إذا طابقوا اسمه قالوا: هذه لغيرك، قال: أنا فقط أتوسل بها؛ فهذا يضحك الناس عليه؛ لأنه سأل بغير سببه الذي تسبب به، فهذا مثال السؤال بجاه فلان.
فإنه بذلك -بلا شك- علاوة على أنه معتد ربما يشك في عقله وفي ذمته، فكذلك من يسأل بجاه فلان أو بفلان أو بحقه، فإن هذه الحقوق إنما وعد الله بها أصحابها.
لكن ستأتي صورة -وهذا وجه من وجوه التداخل- قد يجوز فيها أن يقال: اللهم إني أسألك بجاه فلان، في حالة ما إذا كان فلان المسئول بجاهه موجوداً وقادراً، وأن المقصود بجاهه دعاؤه للغير، كما حدث في قصة الأعمى الذي دعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه سأل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الصورة التي سأل بها هو أنه دعا الله عز وجل أن يقبل دعاء النبي صلى الله عليه وسلم فيه، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه من إنسان قادر ما اعتدينا على أعماله، إنما طلبنا دعاءه، وسبق أن ذكر الشيخ أن من أصول الشرع المتفق عليها: أنه يجوز أن تطلب من الآخرين أن يدعوا لك عند اللزوم، أو في حالة معينة.
فإذا قصد بالجاه هذه الصورة فنعم، لكنها بعيدة، وإذا قصد بحق فلان هذا الوجه فهذا صحيح، لكنه غير المتبادر، ولذلك فالأولى اجتناب هذه العبارة؛ لما فيها من اللبس، والصورة الصحيحة تبقى على الوضوح، بمعنى أنه يجوز أن تطلب من الغير أن يدعو لك، وأن تدعو الله عز وجل أن يستجيب دعاءه فيك، لأنك ما استعملت عمله في صالحك، إنما استعملت المشروع في حقك، وهو أن تطلب منه الدعاء لك.