قال رحمه الله تعالى: [أحدها: التوسل بطاعته فهذا فرض لا يتم الإيمان إلا به.
والثاني: التوسل بدعائه وشفاعته، وهذا كان في حياته، ويكون يوم القيامة يتوسلون بشفاعته.
والثالث: التوسل به بمعنى الإقسام على الله بذاته والسؤال بذاته، فهذا هو الذي لم تكن الصحابة يفعلونه في الاستسقاء ونحوه، لا في حياته ولا بعد مماته، لا عند قبره ولا غير قبره، ولا يعرف هذا في شيء من الأدعية المشهورة بينهم، وإنما ينقل شيء من ذلك في أحاديث ضعيفة مرفوعة وموقوفة، أو عمن ليس قوله حجة، كما سنذكر ذلك إن شاء الله تعالى.
وهذا هو الذي قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز، ونهوا عنه حيث قالوا: لا يسأل بمخلوق، ولا يقول أحد: أسألك بحق أنبيائك.
قال أبو الحسين القدوري في كتابه الكبير في الفقه المسمى بشرح الكرخي في باب الكراهة: وقد ذكر هذا غير واحد من أصحاب أبي حنيفة.
قال بشر بن الوليد حدثنا أبو يوسف قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله إلا به، وأكره أن يقول: بمعاقد العز من عرشك، أو بحق خلقك، وهو قول أبي يوسف، قال أبو يوسف: بمعقد العز من عرشك، هو الله فلا أكره هذا، وأكره أن يقول: بحق فلان، أو بحق أنبيائك ورسلك، وبحق البيت الحرام والمشعر الحرام].
يكثر السؤال عن معقد العز، فيظهر لي أنه ليس هناك تفسير يتفق عليه في معقد العز، لكن يظهر من خلال تفسير أبي يوسف هنا، أنه فسر معقد العز من العرش الله عز وجل الذي هو مقام الله سبحانه وتعالى الذي لا يعلم له كفيفة، ولا نعرف منه إلا أنه عز وجل على العرش استوى.
فربما سمي مقام الله وجلاله معقد العز؛ لأن العرش عرش الله، ومع ذلك فهذه العبارة تبقى غامضة مجملة ليس لها مفهوم، ولا أظنها صدرت عن أهل علم وفقه، إنما صارت أسلوباً لدعاء بعض العباد أو بعض الصالحين الذين قصدوا بها معنى لا يزال غامضاً، إلا إذا وجد لها تفسير، أما أنا فما وجدت لها تفسيراً، فإذا وجد لها تفسير عن أئمة الدين أوضح من هذا فلا بأس.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [قال القدوري: المسألة بخلقه لا تجوز؛ لأنه لا حق للخلق على الخالق فلا تجوز وفاقاً.
وهذا الذي قاله أبو حنيفة وأصحابه من أن الله لا يسأل بمخلوق له معنيان: أحدهما: هو موافق لسائر الأئمة الذين يمنعون أن يقسم أحد بالمخلوق، فإنه إذا منع أن يقسم على مخلوق بمخلوق، فلأن يمنع أن يقسم على الخالق بمخلوق أولى وأحرى.
وهذا بخلاف إقسامه سبحانه بمخلوقاته: كالليل إذا يغشى والنهار إذا تجلى، والشمس وضحاها، والنازعات غرقاً والصافات صفاً.
فإن إقسامه بمخلوقاته يتضمن من ذكر آياته الدالة على قدرته وحكمته ووحدانيته ما يحسن معه إقسامه، بخلاف المخلوق، فإن إقسامه بالمخلوقات شرك بخالقها كما في السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من حلف بغير الله فقد أشرك) وقد صححه الترمذي وغيره، وفي لفظ: (فقد كفر) وقد صححه الحاكم.
وقد ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت) وقال: (لا تحلفوا بآبائكم فإن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وفي الصحيحين عنه أنه قال: (من حلف باللات والعزى فليقل: لا إله إلا الله).
وقد اتفق المسلمون على أنه من حلف بالمخلوقات المحترمة أو بما يعتقد هو حرمته كالعرش والكرسي والكعبة والمسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم والملائكة والصالحين والملوك وسيوف المجاهدين وترب الأنبياء والصالحين وأيمان البندق وسراويل الفتوة وغير ذلك لا ينعقد يمينه، ولا كفارة في الحلف بذلك.
والحلف بالمخلوقات حرام عند الجمهور، وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وقد حكي إجماع الصحابة على ذلك، وقيل: هي مكروهة كراهة تنزيه.
والأول أصح، حتى قال عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم: لأن أحلف بالله كاذباً أحب إلي من أن أحلف بغير الله صادقاً؛ وذلك لأن الحلف بغير الله شرك، والشرك أعظم من الكذب، وإنما يعرف النزاع في الحلف بالأنبياء، فعن أحمد في الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم روايتان: إحداهما: لا ينعقد اليمين به كقول الجمهور؛ مالك وأبي حنيفة والشافعي.
والثانية: ينعقد اليمين به، واختار ذلك طائفة من أصحابه كـ القاضي وأتباعه، وابن المنذر وافق هؤلاء، وقصر أكثر هؤلاء النزاع في ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم خاصة، وعدى ابن عقيل هذا الحكم إلى سائر الأنبياء، وإيجا