خدمة من لا ينتفع به دنيا وأخرى خدمة ضائعة

ثم قال: وخدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك.

أتينا للكلام الهام، خدمة من لا تقربك خدمته إلى الله، ولا تعود عليك بصلاح دنياك، كأن يخدم رجلاً يبعده عن الله سبحانه، أو يخدم واحداً يعمل عملاً لا يفيد، ولا تقل: دعه يعمل واتركه، أو تقول: هذه أوامر يا شيخنا، وأنا عبد مأمور، لكن من الآمر؟ ومن الذي ينبغي أن يطاع ولا يعصى حقيقة؟ فكلنا عبيد لله، ولا طاعة لغيره في معصيته.

أما إن كان الأمر هكذا أي: يطاع غير الله في معصيته، فالحال كما قال بعضهم على لسان حمار الحكيم: قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أركب أي: لو أن الدهر عادل فليس من الصواب أن الحكيم يركب علي دوماً وهو غير أهل لذلك.

ثم قال الحمار: فإنني جاهل بسيط وصاحبي جهله مركب فالمصيبة أن يخدم أحد من لا يقربه إلى الله، ولا يدل الخادم في الدنيا على خير، فحينها يصير الحال كما أخبر الله تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)، فخوفك ورجاؤك لمن ناصيته بيد الله، وهو أسير قبضته، ولا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً، فناصيته بيد من يقول للشيء: كن فيكون، فلا تخف إلا من الله.

إذاً: فهذه عشرة أشياء يتحدث ابن القيم الجوزية عنها أنها ضائعة، ولا ينتفع المسلم بها، ثم يعلق ويقول: [وأعظم هذه الإضاعة إضاعتان، هما أصل كل إضاعة: إضاعة القلب، وإضاعة الوقت]، وهما أهم ما في الدرس.

أما إضاعة القلب فبإيثار الدنيا على الآخرة، وهذا سبب الهلاك، أي: تفضيل الدنيا على الآخرة وأما إضاعة الوقت فمن طول الأمل، يعني: يضيع الوقت على أساس أنه ما زال موجوداً غداً، وما دام كذلك فالتوبة آتية، لكن عبد الله الصالح لا يضمن أن غداً سيأتي.

ولذلك يقول الإمام في الصلاة: صل صلاة مودع، أي: قدر أن هذه آخر صلاة لك، فإن كنت كذلك فلن يأتي الصبح أو العشاء أو المغرب إلا وقد عملت طاقتي من الطاعات، أما من ليس كذلك فيضيع الوقت بسبب طول الأمل، والفساد كله في اتباع الهوى وطول الأمل، فاتباع الهوى يصد عن الحق، وطول الأمل ينسي الآخرة، والصلاح كله في اتباع الهدى، والاستعداد للقاء الله.

ثم يقول ابن القيم: [العجب ممن تعرض له حاجة ويصرف رغبته وهمته فيها إلى الله ليقضيها له، ولا يتصدى للسؤال لحياة قلبه من موت الجهل والأعراض، وشفائه من داء الشهوات والشبهات، ولكن إذا مات القلب، لم يشعر بالمعصية].

رأى ابن القيم مصيبة أكبر مما سواها وهي موت القلب، وكأنه يقول: لماذا لا تجأر إلى الله بأن يشفي قلبك المليء بالجهل، والمرض أو الموت، لكي يشفيك من هذا الداء، فإذا جأرت إلى الله بالدعاء فسوف يعطيك حاجتك، فيشفي لك المريض، وييسر عليك الأمر، ويذلل لك العقبة، ويفرج عنك الكربة، وسيشحن قلبك بالإيمان، ويجعله من القلوب الأواهة المثبتة المنيبة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015