إذاً: فأول شيء من العشرة الأشياء الضائعة: علم لا يعمل به، والثاني: عمل لا إخلاص فيه، ولا اقتداء.
والثالث: مال لا ينفق منه، فلا يستمتع به جامعه في الدنيا، ولا يقدمه أمامه إلى الآخرة.
أنا والله حزين على الذين لهم ودائع في البنوك ويعيشون عيشة الكفاف، أعرف أناساً كلما تتحصل له وديعة يضعها ولا يأخذها أبداً؛ لأن فك الودائع حرام عنده، لكن الذي يصلي الصلاة بعد الوقت هذا ليس حراماً عنده في مذهبه! ويأخذ الوديعة ويظل يشتري الحاجة بالقرش ويدفع أقساطاً ويقول: أنا مديون! ومن ادعى الفقر أفقره الله، ومن ادعى المرض أمرضه الله، ومن يظل كالميت يميته الله، لكنه يبقى حياً وهو ميت، كما قال الأول: ليس من مات فاستراح بميت إنما الميت ميت الأحياء إنما الميت من عاش كئيباً كاسفاً باله قليل الرجاء إنسان مكتئب وعاش كذلك، فليس للحياة وجود عنده حقيقة، لتبخر الإيمان من قلبه، وسيدنا عمر يقول: اللهم إني أعوذ بك من أربع: من ولد يصير علي سيداً، بمعنى: أنه يأمره وينهاه، قال: ومن زوجة تشيبني قبل المشيب، ثم قال: ومن جار السوء تراني أو ترعاني عيناه، وتسمعني أذناه، إن رأى حسنة كتمها، وإن رأى سيئة أذاعها، وعلى هذا كثير والعياذ بالله.
ثم قال: وأعوذ بك من مال يستنفع به ورثتي من بعدي، وأحاسب أنا عليه في القبر.
كان سيدنا علي يقول جملة لطيفة وهي: يا بؤس البخيل الغني! يعيش عيشة الفقراء، ويحاسب في القبر حساب الأغنياء، فهو عايش فقير والعياذ بالله، وفي القبر يحاسبه الله حساب الأغنياء لأنه غني، مع أنه ما عاش مثل الأغنياء، هذا البخيل يقول للجنيه عندما يأتي له: ادخل كم تعبت؟ وتداولت من يد إلى يد سوف تدخل في قرار لن تخرج منه أبداً، لن ترى النور مرة أخرى، ودخل وصلى أربع تكبيرات، نسأل الله السلامة.
ويقال: إن مادراً الذي يضرب به المثل في البخل فيقال: أبخل من مادر، وأكرم من حاتم، قيل له: ممن تعلمت البخل؟ فقال: تعلمته من قبيلتي، وذلك أنهم كانوا عند أن يخرجوا في رحلة ويطبخوا اللحم، يضع كل واحد قطعة لحمه في القدر، ويربطها بخيط، ويمسكها حتى تستوي، حتى لا تضيع في القدر! ويقال: إن مادراً جمع أولاده الثلاثة، فقال: أريد أن أعرف من الذي يرفع علم البخل من بعدي، فأتى بعظم فقال: من يحسن استخدام هذا العظم؟ فالولد الكبير قال: أمصها حتى لا يبقى منها رمق، فلا يمصها أحد بعدي، فقال له: لست بصاحبي، فقال الولد الثاني: أمصها مصاً حتى لا يعرف رائيها ألسنة ألقيت أم لسنتين؟ قال له: لست بصاحبي، إنك لمسرف.
وقال الثالث: أمصها ثم أدقها وأسفها، قال له: أنت صاحبي.
فالبخل ابتلاء، وهو يأتي من قلة اليقين بالله، فهو يبخل على نفسه؛ لأنه خائف من غد.
أتى علماء الاقتصاد سنة خمسة وستين إلى مصر، قبل إعدام سيد قطب بشهر، فأتوا بالخبراء الألمان من أجل ميزانية مصر يريدون انضباط ميزان المدفوعات، فلم يصنعوا شيئاً، وقالوا لهم: امشوا على ما أنتم عليه، فأصبحت الميزانية ليس لها قانون ينظمها لكن لا شك أن في مصر عباداً صالحين، لا يعرفهم أحد، وهناك مسلمات قانتات عابدات، وأناس ظلموا كثيراً، وأطفال وبهائم، فربنا ينزل علينا الخير بسببهم، وبسبب أناس بينهم وبين الله أسرار، لا يعلمهم إلا الله سبحانه وتعالى، فربنا يرحم العباد بسبب واحد منهم، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم شفع من يبكي فيمن لا يبكي)، ولذلك أرحم الناس بالناس العلماء والأتقياء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يحن عليكم بعدي إلا العلماء والأتقياء)، أهل العلم والتقوى هم الذين يحنون على الأمة، أما الباقي والعياذ بالله فلا يهمهم أمر الأمة لا من قريب ولا من بعيد.
إذاً: فالمال الذي لا يستمتع به في الدنيا، ولا يقدم شيئاً منه للآخرة، من الأشياء الضائعة، ورأينا عائشة وهي تعطر الدرهم الذي تنفقه في سبيل الله وتقول: أنا أوقن أنه يقع في كف الله لا في كف الفقير.