آثار التقصير في كتابة تاريخ أعلام المسلمين

الحمد لله رب العالمين، حمداً يوافي نعم الله علينا، ويكافئ مزيده، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، اللهم صل وسلم عليه صلاة وسلاماً دائمين متلازمين إلى يوم الدين.

أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يجعل هذه الجلسة خالصة لوجهه الكريم، وألا يجعل للشيطان فيها حظاً أو نصيباً، وألا يدع لنا رب العباد ذنباً إلا غفره، ولا مريضاً إلا شفاه، ولا عسيراً إلا يسره، ولا كرباً إلا أذهبه، ولا هماً إلا فرجه، ولا ضالاً إلا هداه، ولا مظلوماً إلا نصره، ولا ظالماً إلا قصمه، ولا عيباً إلا ستره، ولا مديناً إلا سدد عنه دينه، ولا ميتاً إلا رحمه، ولا مسافراً إلا رده غانماً سالماً.

اللهم إنك تعلم أن في قلب كل واحد منا كرباً، فأذهب -اللهم- كروبنا، وفرج همومنا، وأذهب أحزاننا، وحقق آمالنا، وأذهب آلامنا، وثبت يقيننا، وقو حجتنا، واجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أيامنا يوم أن نلقاك.

اللهم إنا نسألك أن تطرد عن بيوتنا شياطين الإنس والجن، وأن تطرد عن أبنائنا وبناتنا وأزواجنا وذرياتنا شياطين الإنس والجن، وأن تجعلنا -يا أرحم الراحمين- من عبادك المتقين؛ إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير.

لقد طلب إلي بعض الإخوة أن نقرأ بعض الموضوعات من كتاب عظيم للإمام ابن القيم، وهو كتاب الفوائد، وهو من أعظم الكتب التي يقتنيها المسلم.

والإمام ابن القيم رضوان الله عليه هو التلميذ النجيب لشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية لم يأخذ حظه في التاريخ الإسلامي، فلم يكتب عنه في التاريخ الإسلامي، كما ظلم كثيرون في تاريخ الإسلام، فما كتب عنهم أحد.

يمتاز الغربيون بشيء معين، وهو أن عندهم أن الرجل قد يكون ربع عظيم، أو ثلث عظيم، فيجعلون منه عبقرياً من العباقرة، فلو أن في الغرب رجلاً كـ ابن تيمية أو كـ صلاح الدين أو كـ ابن القيم أو كـ الشافعي أو نحو هؤلاء العظماء الذين كانوا في حياتنا، وأثروا الفكر الإنساني والفكر الإسلامي، وحافظوا على الكتاب والسنة، لو كان هؤلاء عند الغربيين الأوربيين أو الأمريكان أو غيرهم لألفت فيهم الكتب، فـ نابليون ألف فيه باللغة الفرنسية ألف ومائة كتاب، تحدثت تلك الكتب عن نابليون وحياة نابليون، فصار نابليون أحد أعلام الثورة أو التاريخ أو الحضارة الفرنسية.

حتى إنه من كثرة ما كتبوا عن عظمائهم كتبنا نحن عنهم في كتب التاريخ لأبنائنا، ولقد عملت إحصائية منذ سنوات في مراحل التعليم المختلفة للكتب الدراسية التي تتحدث عن الشخصيات وعن الموضوعات التي تهم التلاميذ، فوجدت ما يقرب من ثلاث وسبعين صفحة في الكتب تدرس لأبنائنا في المرحلة الثانوية تتحدث عن أوربا وعن الحضارة الأوربية.

ووجدت قرابة تسع وستين صفحة تتحدث عن الحملة الفرنسية وآثارها السياسية والاقتصادية والعسكرية، والعلمية، ووجدت ما يتحدث عن النهضة الإيطالية في قرابة مائة وسبع صفحات.

وأما ما كتب عن عمر بن عبد العزيز في القصة التي كان تدرس في سنة من السنوات فثلاث صفحات، وما كتب عن الصحابة رضوان الله عليهم ثلاث وعشرون صفحة، وما كتب عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزيد على خمس وثلاثين صفحة.

فأولادنا يدرسون عظمة الأوروبيين، ولا يدرسون عظمة آبائهم وأجدادهم، فلو سألنا أحدهم عن صلاح الدين الأيوبي فإنه قد لا يعرفه، وكذلك لو سألناه عن سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة.

والأولى أن تدفع الجوائز المشجعة في حياة هؤلاء الرجال، فأبناؤنا قد لا يعرفون شيئاً عن أبي بكر الخوارزمي، أو عن الرازي، أو عن الشوكاني صاحب نيل الأوطار، أو عن الإمام محيي الدين النووي صاحب رياض الصالحين، أو عن الإمام الترمذي صاحب السنن، أو عن ابن النفيس مكتشف الدورة الدموية، أو عن الحسن بن الهيثم، أو جابر بن حيان، وغير هؤلاء الذين أثروا العلم الإنساني، وأخذت عنهم أوروبا، واستيقظت بهم في الظلام.

فأين تاريخ هؤلاء العظماء من السلف الصالح الذين أثروا وحافظوا على الكتاب والسنة، وحافظوا لنا على هذا التاريخ العظيم.

وقد زارني أخ في الله، واطلع على المكتبة، فرأى كتباً بلون واحد تقع في واحد وأربعين جزءاً، فقلت له: هذا كتاب يقع في واحد وأربعين جزءاً، وهو أحد كتب الإمام ابن تيمية.

وابن تيمية ألف ما يقرب من ثلاثمائة واثنين وأربعين كتاباً، وكان قواماً بالليل صواماً بالنهار، مجاهداً في سبيل الله، وكان من أكبر المقاتلين، مع كل هذا لا ندري عن ابن تيمية إلا الشيء اليسير.

فنحن نجهل تاريخنا، ولا نعرف شيئاً عن نسيبة بنت كعب، أو عن السيدة زينب زوجة عبد الله بن مسعود، أو عن السيدة أم كلثوم بنت السيدة فاطمة الزهراء التي تزوجها عمر بن الخطاب، لا نعرف من تاريخها شيئاً، ولا نعرف تاريخ رقية أو أم كلثوم أو زينب بنات سيدنا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وكذلك عاتكة بنت عبد المطلب وصفية بنت عبد المطلب وسائر عمات الرسول صلى الله عليه وسلم، لا ندري عنهن شيئاً.

وقد يقول البعض: إن هذا تقصير العلماء؛ لأنهم لم ينظروا إلى عظمة هذا التراث وعظمة هذا التاريخ الذي يعتز الإنسان به.

وإني لأذكر رسالة الملك جورج الذي كان حاكم إنجلترا إلى هشام الثالث ملك المسلمين بالأندلس، حيث قال فيها: من الملك جورج الخامس ملك إنجلترا والدنمارك إلى أمير المؤمنين، أما بعد: فإنه قد بلغنا ما تقدمت فيه بلادكم في نواحي العلم المختلفة، ولقد أرسلنا إليكم بعثة علمية تتعلم في بلادكم لمدة عامين ترأسها الأميرة روبانت بنت أختنا، ولعل البعثة خليقة عندكم بالتكريم اللائق.

وفي آخر الرسالة كتب: خادمكم المطيع: جورج الخامس ملك إنجلترا.

فسبحان من يغير ولا يتغير، والله سبحانه أعطى الناس في الكون أسباباً، فلو صار الإنسان وفق هذه الأسباب واتبع الخطوات التي أعطاها الله له لنجح؛ لأن الله عز وجل سوف يعطيه الثمرة، أما أن نكبر الأمر الصغير، ونصغر الأمر الكبير، ونهتم بأمور لا علاقة لها بالدين، فذلك هو التخلف بعينه، فإن الله -كما قال لنا الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم- يحب من الأمور معاليها، ويكره سفسافها.

فربنا سبحانه وتعالى لا يحب إلا معالي الأمور، ويكره الحق عز وجل سفساف الأمور.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015