فالذي يقول في كل ما يسأل عنه، يفتي، هذا مجنون بلا شك؛ لأنه يهلك نفسه، ويحرق نفسه، وأهل العلم يقررون أن على المفتي أن يسعى في خلاصه، لا في خلاص السائل، ومن ترك لا أدري أصيبت مقاتله.
وحال السلف في هذا الباب معلوم، حال السلف في تدافعهم وتدارئهم الفتيا قد يتدافعه عشرة أو أكثر إلى أن تتعين على شخص فيفتي، وكثير ممن يتصدى للإفتاء اليوم قبل أن يتم السؤال يجاوب، في منتصف السؤال يبدأ بالجواب، منتصف السؤال، لا يتسنى له أن يتأمل السؤال حتى يجاوب.
والنبي -عليه الصلاة والسلام- في قضايا كثيرة يسأل وهو المعصوم فيسكت، يسأل فيسكت، لا يجيب بسرعة، ثم يقول: أين السائل؟ فيجيبه.
من أهل العلم من يقول: أنه ينتظر الوحي، ومنهم من يقول: إنه ليربي المفتين بعدم العجلة في السؤال؛ لأن من يتأنى في الغالب يسدد، إما أن يسدد فيوفق للجواب الصحيح، أو يتأمل المسألة فلا يجد عنده جواباً لها، فيقول: لا أدري، وليس فيه عيب أن يقول الإنسان: لا أدري، كما قال الإمام مالك: اذهب، اذهب يا أخي قل لأهل العراق: إن مالك يقول: لا أدري، إيش يصير.
"والله إن الذي يفتي الناس بكل ما يسألونه لمجنون" قال الأعمش: فقال لي الحكم بن عتيبة؟ معروف، من الفقهاء،: لو كنت سمعت بهذا الحديث: يعني بهذا الخبر عن ابن مسعود وهو الذي ملئ علماً، لو كنت سمعت بهذا الحديث منك قبل اليوم ما كنت أفتي في كثير مما كنت أفتي": قد يقول قائل: إنه ابتلي، ابتلي بالفتوى؛ لأن الإشكال أن الإنسان يقرر مثل هذه الأمور وينقل حال السلف، فإذا تؤملت حاله وطبعه –طريقته- أنه مبتلى في هذا الباب، إما بالمقابل أو بغير المقابل، قد يقال: إن الذي من مقابل عليه أن .. ، يجب عليه أن يفتي، ولا يدرأ الفتيا؛ لأنه يخلع هذا، لكن الذي بغير مقابل، يعني ما عين من قبل ولي الأمر لهذا الأمر عليه أن يدرأ الفتيا بقدر ما استطاع، بقدر الاستطاعة، إلا إذا تعينت عليه، إذا تعينت عليه، عليه أن يفتي إذا كان يعرف، إذا كان يعرف، وقبل ذلك عليه أن يؤهل نفسه، عليه أن يتأهل للفتيا.